الخميس 2024/12/26 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
السماء صافية
بغداد 17.95 مئويـة
نيوز بار
التعالق المكاني والتاريخي في رواية (وجوه حجر النرد)
التعالق المكاني والتاريخي في رواية (وجوه حجر النرد)
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب د. سمير الخليل
النـص :

يظل السؤال مفتوحاً بين التاريخ والرواية حتّى يتحوّل التاريخ إلى رواية، وتتحول الرواية إلى تاريخ ويبقى التعالق قائماً بينهما في السعي والبحث عن الحقيقة وتوثيق الحقيقة والقدرة على تأويلها، ويقوم الراوي بسدّ الفجوات التي تركها المؤرخ بمتخيل سردي، ومن حيث التجنيس ينبغي التمييز بين نمطين من التعالق بين التاريخ والاستلهام السردي، فهناك الرواية التاريخية المحض، وهناك توظيف التاريخ في الرواية، وهذا الاستهلال يمثّل تمهيداً وضرورة لتناول رواية (وجوه حجر النرد) للروائي والقاص (حسن كريم عاتي) الصادرة عن دار الصحيفة العربية – بغداد، 2024)، وهو يتوغل في توظيف وقائع التاريخ على وفق اشتغال تجريبي جديد ورؤية تمزج بين الحقيقة التاريخية والمنحى التأويلي الذي يكمن فيها.

ولعلّ من أبرز توجهات هذا العمل الروائي ارتكازه على تعدّد مستويات الأداء واستحضار الوقائع وتأطير الاشتغال بالأبعاد والظواهر والعناصر السردية، وتمخّض عن السعي المعرفي والفكري توّجه في استخلاص النتائج وإعادة القراءة وبما أفضى إلى خلق البنية الإسقاطية والمقارنة والمماهاة بين مختلف العصور والمراحل، وربط الأحداث لكي نكتشف البعد الإنساني والبعد التطوّري في التاريخ، وما ينتج عن ذلك من اسئلة: هل التاريخ تكراري أم دوري؟ أي هل هو مسار خطّي أم أنّه يتكرر بحسب (كارل ماركس) في المرّة الأولى على شكل تراجيديا وفي المرة الثانية على شكل كوميديا هازلة، وما يصنع التاريخ؟ وما الذي يبقى منه؟، هذه التساؤلات حتماً لها معطيات وعوامل في هذه الرواية التي لم تقع في غواية السرد التاريخي المحض بل استلهمت تفاصيله من خلال فرضية بؤرة المكان بوصفه نصّاً تاريخياً متمثلاً بمدينة بغداد، ولذا نجد استراتيجية، وتجلّيات البعد المكاني تتحوّل إلى نوع من السرد التاريخي القائم على تأسيس الذات والهوية والافضاء الفكري، ويمكن القول إنَّ البطل الحقيقي والمحوري في هذه الرواية هو (المكان) متمثّلاً بمدينة (بغداد)، فهي الذاكرة والثيمة والاستشراف، وهي تستدعي حكّامها وأمراءها وحلفاءَها وملوكها على شكل تنويعات لاحتلال السلطة واختلالها.

يمثل عنوان الرواية بوصفه النص الموازي، وعتبة الاستهلال مرتكزاً دلالياً للكشف عن قصديّة وأسرار هذا التوّغل، فالعنوان يحمل طاقة سيميائية ايحائية لوجوه حجر النرد الستّة، وإنّ السلطة ما هي إلاّ لعبة نرد، وما التاريخ سوى تقلّبات هذا الحجر على وجوه متعدّدة ومختلفة، لكنّ جوهر التسلّط يبقى واحداً متناسخاً متناسلاً متوالداً، فالعنوان يشير إلى حركية هذا الخداع المتوالد والممتدّ عبر العصور سواء أكانت السلطة من تدبير داخلي أم أنها صنيعة الغزو والاحتلال الخارجي، ولا نجد فرقاً في جوهر التسلّط وطقوسه الوحشية والبراغماتية فلا فرق بين الاستحمار (الداخلي) وبين الاستعمار الخارجي سواء أكان الأوَّل يأتي من صنع الداخل أم يأتي الآخر من الخارج كما يصف ذلك علي شريعتي.

يبقى التاريخ بيد الراسخين في القوّة ويكتبه المنتصرون والمتسلّطون، والمنتصرون مفهوم نسبي، فمن هو المنتصر الحقيقي ومن هو الخاسر في لعبة نرد تعتمد الموت والعبث والعدمية والسير باتجاه المجهول، وهذا هو المقترح المعرفي والرهان على الرواية بوصفها المؤشّر الكاشف عن المسكوت عنه وكسر خطّية وتابويّة المنطق التاريخي واستبداله بمنطق القراءة التأويلية، فكل اقتراب من الحقيقة التاريخية هو سؤال مفتوح يفضي إلى القراءة والفهم الجديد وإعادة استخلاص ما جرى من وجهة نظر مغايرة بعيدة عن لعبة النرد، ورمي الأقدار وتعدّد وجوه الاستبداد والهيمنة، والنرد واحد، ويمكن استلهام فكرة ما أفضى به الروائي المكسيكي (كارلوس فوينس) من مقولته الشهيرة ومفادها: "إنَّ المؤرخين الحقيقيين هم الروائيون" كون الرواية لا تدخل في لعبة النرد المقيتة بل هي لعبة الاستشراف ووعي الذات والكشف عن جوهر الحقيقة من وجهة نظر الفكر والتأمّل والكشف من خارج اللّعبة ومقامرات النرد السلطوي.

ولعلَّ عتبة الاستهلال التي وصفها الروائي تنطوي على فكرة السلطة ومغامرة الهيمنة واقدار المفارقة الدامية والمضحكة التي تنطوي عليها، لاسيما أنها عبارات نطق بها البهلول بوصفه العقل الساخر من سخرية الأقدار، وإنّ الموت هو النهاية مهما استبدت لعبة التسلّط. "هب أنّ مملكة الدنيا تساق إليك، أليس آخر ذلك الموت، فآخر ما ترى القبر واللّحد والثرى، وإيّاك والظلم فإنّ الملك إذا اشتهر بالظلم بغضته الرعية، وإذا بغضته الرعية خالفته، والمخالفة سبب المحاربة، فالفتنة نجوى ثمّ شكوى ثم بلوى". (الرواية: 5)، ولذا فإن هذه العتبة تمثّل البؤرة التي تمهّد وتنطوي على كلّ الأبعاد الأفقيّة والعمودية للنص، وتختزل درامية الأحداث وتؤسس لمنطلق التسلّط والمزالق التي تنتظره، فهي شفرة التأويل والإيحاء والاستشراف وتتعاضد على مستوى البنية السيميائية مع دلالة العنوان للمزج بين حركات وتقلّبات النرد وبين سخريّة الأقدار، ومثول الحقيقة المطلقة القائمة على الزوال الكلّي والمطلق ولا يبقى من الممالك سوى الأخبار والسيرة والروايات والعظة إذا وجد من يبحث عنها لقراءة الذي حدث والذي سيحدث حتماً تحت سطوة حجر النرد ورقعته الدامية وعلى وجوهه الستة.

يتخذ الروائي (حسن كريم عاتي) من سردية بغداد التاريخية مرتكزاً أساسيّاً في تواتر الروي واستحضار الوثائق والأخبار والمصادر ليس بصيغة السرد الخالص أو الوقائع المتداولة بل من خلال استحضار وقراءة جديدة تربط أحداث الماضي والحاضر، وفي غمرة هذا التناول عن سيرة المدينة بوصفها البطل الدرامي، وجد الروائي نفسه أمّام توظيف عناصر البناء الفنّي والظواهر التي تشكّل بنية السرد، وتكشف عن دلالته فاعتمد على الوثائق واستحضار نصوصها بوصفها عنصراً مهمّاً من الاشتغال الميتاسردي إلى جانب ذكر الأسماء الحقيقية أو الترميز لها أحياناً، وذكر الأحداث والوقائع وهي عناصر ميتاسردية دمجت في بنية السرد، وقد أطرّها الكاتب وفق اشتغال فنّي استخدم فيه اسلوب (المونتاج) السينمائي ومزج الأزمنة وخلق تواتر بينها.

وقد سعى الكاتب إلى اختزال الوقائع وبراعة الانتقاء لوقفات ومنعطفات التاريخ من خلال وضع عنوانات دقيقة ودالة، فكان لكلّ فصل عنوان يمثّل الدال، والتفاصيل تمثّل المدلول، ومن خلال اتحاد الدال والمدلول تحوّلت فصول الرواية إلى علامات تؤشر وتكشف عن حركة البندول التاريخي، وتوثيق أهواء مغامري وعشّاق التسلّط بمختلف وجوههم وأزيائهم ومنطقهم وشعاراتهم منذ مؤسس بغداد، في العصر العباسي الخليفة (المنصور)، وحتّى سلطة (بريمر) والخراب (المارينزي) والزحف الأطلسي والاحتدام البغيض الذي زرعه الاحتلال ومنطق البوارج والثكنات بعد أن جنَّ جنون حجر النرد، وهو يؤسّس لاحلك صفحات السيرة لمدينة سمّيت بالعروس، لكنّها عروس ثكلى.

ويمكن تأمل هذا المقطع من الرواية الذي يكشف أن جوهر الاستبداد واحد، وأن وجوه حجر النرد مهما اختلفت فهي تعبّر عن لعبة كالحة: "وباستبدال الأسماء التاريخية المرتبطة بالحدث والمتحدّث ومناسبة الحديث، يمكن الاستعاضة عن السلطات برئيس الجمهورية أو الملك، وعن الوزير برئيس الحكومة أو الوزير الأوَّل وعن العامّة بالمواطنين، وعن السفلة رؤوساء العامّة بالمضلّين، وتبديل المصطلحات على الوجه المقترح لحجر النرد، فيكون التوجيه أو الأمر أو رسم سياسة الحكومة". (الرواية: 11). إنَّ السلطة لا تملك سوى تحويل العامّة أو المواطنين إلى رعايا، بل إلى قطيع وهي تستثمر طاقاتها في التدجين والترهيب والترغيب: "يا رئيس الوزراء إنَّ هؤلاء المواطنين تجمعهم الصيحة ويرأسهم المضلّون، فإنّ تقويمهم وإصلاحهم بعد ظلالهم عسير، فاجمعهم بالخوف، واملأ صدورهم بالخشية وما أمكنك من رحمة بهم أو عطف عليهم فافعل". (الرواية: 11).

ليس في الرواية أبطال أو شخصيّات بل هناك اسلوب لتقديم سيرة المدينة من خلال الوثائق والوقائع، وليس سوى صياغة هذا التواتر وحركيّة الأحداث عبر الربط والإختزال، وانتقاء البؤر أو المنعطفات الكبرى، من احتلالات وانقلابات وأزمات... وليس الاستذكار هو المهيمن بل وعي الاستعادة والانفتاح على التأويل، وادراك قصديّة التاريخ وهو يخرج عن منطق الاستدلال إلى منطق الخراب الذي يكرّر نفسه حتى تتحوّل وجوه حجر النرد إلى صفحات لتاريخ مدينة تتحوّل إلى ذاكرة وهوية، وطروادة ملؤها الرماد والحروب وزحف الغزاة وقفزات العسكر وألاعيب الخداع السلطوي والأدلجة والإحتواء القطيعي وتسيّد المجهولين، وعشّاق التسلّط ومغامري النفوذ والاستحواذ القادمين من أقصى الظلام إلى أقصى العدميّة، تلك هي المدينة إذ تتحوّل معالمها إلى دالات سردية، ويركز السرد على شخصنة الجسر بوصفه المرتكز الحي الذي يعبر عليه السوقة والأمراء والإنقلابيون والمحتلون على مختلف وجوه حجر النرد أو مختلف المراحل التاريخية، "استمر موكبه على الجسر بأبهة الخلافة الجديدة وبدماء جديدة لغد جديد، والذي ستستمر المواكب عليه، من جحافل جنود عائدة من نصر جديد أو من ردّ فتنة جديدة وقعت في ثغور الإمبراطوريّة أو قوافل سبي جديدة أو ميرة تجارة أو مواكب امبراطورية تتقدّم لتسلّم عهد خلافة جديدة لا تخرج عن سلالة الدم النبوي الشريف غير أنها لم تشهد على الإطلاق جحافل جيش معاد يتقدّم على الجسر لاحتلال مدينة العروس أو محاصرتها إلاّ بعد نصف قرن من وفاة الخليفة الأب". (الرواية: 39).

هذا المقطع الروائي يوثّق لدالّة المكان، على وفق ثنائية (المدينة – الجسر) الذي يشهد حركة الآتين والمحتلّين والمحتالين حركة الغزو وحركة قمع الفتنة من وجهة نظر السلطات والوثبة من وجهة نظر الرعية، هذه هي لعبة النرد التي تتابعها الرواية عبر منتجة وسرد للأحداث ولكي يتعمق البعد الإسقاطي لتعدّد وجود الاستبداد لكن الجوهر يبقى واحداً، ومتّحداً لجعل المدينة فضاء لتاريخ العنف والإقصاء والإستحواذ، وذاكرة لكل ما هو بغيض وكالح ودام...، وتصبح بغداد، مدينة العروس مساحة أثيرة ونقطة غواية لكل أنواع المحتلّين والمعتوهين الذين لا يدركون سوى التلذّذ بالسطوة وتحقيق جنون وهوس التملّك.

وقد تحول التاريخ في الرواية إلى شريط سينمائي وتداعيات أفضى بها الكاتب، واستحضر سيرة المدينة، وسيرة طرقاتها وجسورها وناسها منذ أيام التأسيس وحتى آخر احتلال قام به (كابوي) العصر الأميركي، استحضر تراجيدياً احتلال بغداد، من قبل (التتر والمغول) وانهيار العصور التي تلت هذا الخراب، وتناول سيرة (مدينة العروس) ومجيء الملوك الثلاثة الذين قتلوا بمختلف الأسباب والنتائج والدوافع، الموت الغامض للأول والحادث للثاني والانقلاب الدموي للثالث، وسيتعرض صفحات جمهوريات الدم الثلاث، وينقل وقائع الانقلاب ضد الملوك ومن ثم الانقلاب على صنائع الثكنات العسكرية ومصيرهم الأسود الذي لا يقل بشاعة عن بشاعة الموت السلطوي القائم على قدرية ورقصات حجر النرد المتوحش: "حين أفاقوا على صورة الزعيم على شاشة التلفاز مسجّى على الأرض ويبصق بوجهه عسكري من جنده، ودخان حرائق وزارة الدفاع ما زالت تشيع نذر خراب جديد لدولة عملت الأماني على جعلها بديلة فردوس الله التي وعد بها المؤمنين في دولته التي انقرضت كديناصور لا يمكن التحقق من وجوده إلاّ من كتب الأولين". (الرواية: 72).

وعلى وفق استدلال قصدي تقفز دالة السرد إلى مكان وتاريخ ومساحة للموت أخرى متمثلّة بمجزرة الرفاق في قاعة الخلد 1979، وحدوث سقوط جديد لوجه من وجوه حجر النرد: "ومع كلمة (اطلع) وبتكرارها، ضجّت القاعة بالتصفيق وهي تزيح الأشخاص الذين وردت اسماؤهم بأقوال المتّهم بالتآمر وسمع صوت صليات من اطلاق الرصاص خارج القاعة، وصراخ الضحايا الذين كانوا قبل لحظات رفاق الدرب في بناء دولة الأماني للعرب من المحيط إلى الخليج، فلاذ الجميع بصخب أصواتهم التي تنافس صوت اطلاق الرصاص لإعلان الولاء للقائد الجديد". (الرواية: 75).

إنَّ هذا التجسيد السردي تستحضر فيه الرواية الماضي وتستلهم الأحداث والوقائع التاريخية وتنتقي المنعطفات الحادّة وتنقلها على شكل سرد يمزج الوقائع بالمتخيّل حتى يشعر المتلّقي بأنَّ سيرة (مدينة العروس) ومعالمها وتضاريسها ما هي إلاّ وقائع تنتمي إلى الفانتازيا التاريخية، وإلى نوع من أدب اللاّمعقول إذ تتوغّل في تفاصيل وتراجيديات وكوميديات التسلّط الاستبدادي بأنواعه وتقدّم الرواية تنويعات لومضات خاطفة للذهن ومثيرة وهي ترسم لوحات غرائبية تنتجها رقصة النرد على صفحات التاريخ وهي تعبّر عن قصّة موت يتكرّر وعبث يتناسل وتوحّش يتمادى.

المشـاهدات 203   تاريخ الإضافـة 30/11/2024   رقم المحتوى 56422
أضف تقييـم