الأربعاء 2024/12/4 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 16.95 مئويـة
رهينة الوجع العراقي: قراءة في جدليّة الثنائيات الوجودية عن ديوان (أحد الظلين.. انا) للشاعر رحيم زاير الغانم
رهينة الوجع العراقي: قراءة في جدليّة الثنائيات الوجودية عن ديوان (أحد الظلين.. انا) للشاعر رحيم زاير الغانم
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

  •  
  • باسم قاسم

       في المجموعة الشعرية هذه، نحن أمام شاعر يتقن التحليق في عالم مليء بالاضطرابات، حيث تتحرك الذات بين أضداد تستعصي على التوفيق. من خلال لغة مُثقلة بالرمز ومرهقة بثقل الواقع، تتجلى هذه النصوص كمرآة لعالم متصدع يعاني فيه الإنسان العراقي، بل الإنسان الكوني، من الفجوة بين ما هو قائم وما يمكن أن يكون. إنها نصوص تحمل في طياتها انفجاراً داخلياً يحاول أن يُعرّي الذات والآخر والوجود، دون أن تمنح أي يقين.

-جدلية الظلام والنور.

من أول وهلة، يظهر الشاعر وكأنه يحاكم العالم من خلال لعبة ثنائية تتجلى في الصراع الأزلي بين الظلام والنور. في قوله: 

"عالم يزداد بصيرة بازدياد الظلمة، وآخر يزداد عواراً بازدياد النور."

نحن أمام رؤية شبيهة بمفهوم "ديالكتيك هيجل"، حيث الحركة بين التناقضات تولّد وعياً جديداً. الظلام هنا ليس مجرد غياب النور، بل حالة وجودية تعرّي الحقيقة، على عكس النور الذي قد يكون خادعاً. هذه الصورة تستدعي أعمال *ويليام بليك* في "أغاني البراءة والتجربة"، حيث يُصور النور كقناع يخفي آلام التجربة. 

لكن الشاعر يتفوق على ذلك، إذ يجعل الظلام ملاذاً للبصيرة، وهو ما يعكس قدرة النص على قلب المعايير الأخلاقية والجمالية المتعارف عليها، ليخلق واقعاً شعرياً جديداً.

-الغياب كفعل وجودي.

الغياب في هذه النصوص لا يعني مجرد الفقدان أو النقص، بل هو حضور متوتر وثقيل. في العبارة: 

"غائب أنا، غائب أنت، غائبة أنت يا نرجسة."

يبدو الغياب أشبه بدورة مغلقة، حيث يتماهى الشاعر مع الآخر الغائب، ليؤسس لحالة من الوحدة الجماعية. هذه الفكرة تعود بنا إلى شعر *بابلو نيرودا*، خاصة في قصيدته "ليلة وحيدة"، حيث يصبح الغياب وسيلة لتعميق الإحساس بالحضور. لكن الشاعر هنا أكثر جذرية؛ فهو لا يبحث عن الآخر ليكمل ذاته، بل يُعرّي الفجوة التي يتركها الغياب في نسيج الوجود. 

-الأوطان كرهينة للصمت:

في واحدة من أقوى صور المجموعة، يقول الشاعر: 

"يا أوطاني الغافية على براكين الخيبة."

هذه الصورة تختزل المأساة العراقية، حيث يصبح الوطن كيانا خاملاً فوق فوهة الغليان. الأوطان هنا ليست فقط أماكن جغرافية، بل هي رموز للتاريخ والمصير المعلق. يذكرنا هذا بتصورات *جيمس جويس* في "عوليس"، حيث تتحول دبلن إلى مرآة للتاريخ الأوروبي بأكمله. العراق في هذه النصوص هو عالم مصغر للإنسانية، كيان غارق في سبات الخيبة، لكنه مليء بالطاقة الكامنة. 

-الاغتراب الداخلي والمواجهة مع الذات:

الشاعر في هذه النصوص ليس فقط مغترباً عن الواقع، بل أيضاً عن ذاته. يقول: 

"أنا بذات الرئة، وأنت بذات الكربون."

هذه العبارة تحمل دلالات عميقة عن العلاقة بين الإنسان ومحيطه. الذات هنا ليست كيانا مستقلاً، بل هي متورطة في دورة الحياة والموت مع الآخر، حتى أنها تستنشق أنفاسه السامة. هذه الرؤية توازي تصور *ألبر كامو* في "أسطورة سيزيف"، حيث يتحول العبث إلى جزء من نسيج الوجود، لكن الشاعر يتجاوزه بجعل العبث وسيلة للتعبير عن الألم الجمعي.

-التقنية الشعرية والروح الحرفية:

على الرغم من الثقل العاطفي والفكري للنصوص، إلا أن الشاعر يتعامل مع شعره كحرفة. هذه النصوص مكتوبة بدقة متناهية، حيث تتداخل الرموز والصور ببراعة، مثل: 

"تأخر الوقت، حبات البرد تقتحم طرقاتي، ونوافذك مؤصدة."

هنا يظهر الشاعر كصانع ماهر، يمزج بين الصورة الحسية والمجازية ليخلق إحساساً بالاختناق. هذه الصنعة تعيدنا إلى تقنيات *ت. س. إليوت* في "الأرض الخراب"، حيث تتداخل الأزمنة والأماكن لإنتاج نص متشابك ومعقد.

-الأمل المشروط والانكسار المتكرر:

على الرغم من الظلام الذي يغلف النصوص، إلا أن هناك تلميحات خافتة للأمل، كما في: 

"مدي وريقاتك الخضر يا شجرة الأرز باتجاه صفرتنا، نحن السنابل."

الأمل هنا ليس يقيناً، بل هو مشروط بالاستجابة للطبيعة، كما لو أن الخلاص ليس في يد الإنسان. هذا التوتر بين الأمل والانكسار يذكرنا بـ*ريلكه*، خاصة في "مراثي دوينو"، حيث يصبح الأمل فعل مقاومة أمام الخراب. 

-الشعر كفعل كوني :

النصوص ليست مجرد تعبير عن مأساة محلية، بل هي إعادة صياغة للوجع الإنساني. الشاعر يحول قضايا العراق إلى أسئلة كونية: 

"من يتكفل باقتلاع عرجون بقائنا المتيبس؟"

هذا السؤال يتجاوز الجغرافيا والتاريخ ليطرح أزمة الوجود نفسه، كما في أعمال *فيلسوفة العبث* سيمون دو بوفوار، حيث يصبح الإنسان مسؤولاً عن مواجهة عبثيته بصناعة معنى. 

-شعرية المقاومة والصمت :

هذه النصوص هي تجسيد لروح العراق، لكنها في الوقت نفسه مرآة للإنسانية بأسرها, إنها نصوص تعري هشاشتنا، لكنها تمنحنا أيضاً القوة لمواجهتها. الشاعر هنا ليس فقط مراقباً للواقع، بل هو صانع عالم بديل، مليء بالأسئلة والثنائيات. إنها نصوص تضع القارئ في مواجهة مع ذاته ومع الآخر، لتخلق تجربة شعرية لا تُنسى.

المشـاهدات 59   تاريخ الإضافـة 01/12/2024   رقم المحتوى 56471
أضف تقييـم