النـص : تحقيق ـ عبدالهادي البابي
في أغلب شوارع وساحات الدول العربية والإسلامية لاتكاد تمشي في مكان عام إلاّ وتشاهد المسبحة في أيدي الرائحين والغادين في شوارعها وفي أيدي الجالسين في المقاهي أو عند الجالسين على أبواب محلاتهم في الأسواق والأماكن العامة ، حيث تتعدد أسباب الولع والعشق بالمسبحة وأقتنائها وحملها والتباهي بها ، فمن الأسباب ما هو ديني ومنها ماهو تراثي ومنها ماهو للزينة أوللجاه أولإبراز الشخصية، وقد أدى ذلك الإهتمام إلى تنوع أشكال وأحجام وألوان المسابح التي يحملها الناس معهم في حِّلهم وترحالهم ومجالسهم ولقائاتهم وفواتحهم وكأنها جزء لايتجزأ من كمالياتهم وملابسهم .وعلى مدى التاريخ أستحوذت المسبحة على مكانة خاصة في الوجدان العام ولم يقتصر أستخدامها يوما ماعلى معتنقي دين أو أفراد أو جماعة أو شعب معين ، بل كانت إرثاً مشتركاً في الحياة الإجتماعية يحلمها الناس وكل واحد منهم له رغبة وغاية خاصة به .وفي المدن العراقية تكون المسبحة أكثرأستخداماً وأقتناءاً ، حيث يمتلك البعض منهم أنواعاً نادرة وثمينة منها..فتوجد في كل مدينة أسواق عامرة ومحلات معروفة لشراء وبيع هذه المسابح ، كما ويتعامل أغلب أصحاب محال التحف والإنتيكات القديمة بها والحفاظ عليها وعدم بيعها وكأنها جواهر وآثار قيمة لاتقدر بثمن ، وفي السنوات الأخيرة صارت للسبح تجارة رائجة ومربحة وتباع عن طريق المزادات أو عن طريق البيع المباشر في الساحات والميادين والخانات والمحلات المتخصصة في مجال العقيق والمسابح والأحجار الكريمة.وللإطلاع على أسرار المسابح وأنواعها وتاريخها وصناعتها ومناشئها وتفاصيل أخرى عنها قصدنا أحد أسواق كربلاء لبيع العقيق والمسابح والأحجار الكريمة الذي يعمل فيه الكثير من أصحاب الخبرة القدامى خصوصاً في بيع وشراء السبح ..وتوقفنا في عدة محلات لبيع المسابح ..وكان أول تلك المحال المتخصصة ببيع وشراء السبح هو محل الحاج أبو وسام الأسدي الواقع في قلب مدينة كربلاء القديمة ..وبعد أن رحب بنا وقدّم لنا واجب الضيافة أجرينا معه هذا الحوار الشيق حول هذه المهنة التراثية الجميلة : في البداية طلبنا من أبي وسام نبذة تاريخية عن السبحة وكيف بدأت فكرتها الأولى ومن هي الشعوب التي أستعملتها في حياتها اليومية منذ القدم؟فقال : لاشك أن تاريخ المسابح ما هو إلاّ تطور حتمي لفكرة القلادة ، حيث كانت القلادات جزء أساسي من المظهرالعام لعلية القوم من القادة والملوك والأمراء والنبلاء، وصولًا إلى الكهان والرهبان ورجالات الأديان ، ولما تطلعت الشعوب في تقليد هؤلاء في مظهرهم أبتُكرت السبح من أشكال وخامات مختلفة لتبقى بيد الجميع ، فمن ناحية يكونون مُزيّنون بها كما يتزين الملوك بالقلائد، ومن ناحية أخرى يثبتون أهتمامهم بالممارسات والشعائر الدينية ويستخدمون السبح في أداءها.وعليه فأن صناعة المسابح وأستخدامها لها تاريخ قديم جداً يصعب معه تحديد الزمن الدقيق الذي ظهرت فيه لأول مرة ، فبعضهم يفترض أن السومريين الذين عاشوا على الأرض قبل نحو خمسة آلاف عام هم أول من أستخدمها، ومن ثم أنتقل أستخدام المسابح منهم للحضارات الأخرى، وأبرزهم الأمم القديمة كالفرعونية والهندية والفارسية.وكان هناك سؤال عن : هل هناك فرق بين المسابح العربية والإسلامية وبين المسابح الأجنبية ..؟فقال الحاج أبو وسام : لايوجد شيء إسمه مسباح أجنبي ، بل أن فكرة المسبحة هي عربية إسلامية خالصة ، وماعند الأجانب كانت تسمى عقود وقلائد ومكملات في التحف والأبواب ومقابض السيوف والخناجر والمسدسات القديمة فقط ..وسألنا الحاج أبو وسام : منذ متى وهو يعمل في مهنة المسابح ..وهل أختارها كمهنة أم كهواية ، وهل تكونت لديه خبرة ومعرفة كافية بها خلال هذه السنوات الطويلة ؟فأجاب : عملت في بيع وشراء وأقتناء المسابح منذ سنة 1993 وأتخذتها كهواية محببة لنفسي منذ الصغر..والآن أنا لدي هذا المحل الذي أصبح بحكم المهنة ..أما عن الخبرة فلازلنا نتعلم ونغترف الأفكار وكل ماهو جديد من بحر عالم المسابح الواسع جداً.وعن أجود أنواع المسابح وأغلاها ثمناً وهل هناك مواصفات خاصة ومحددة بالمسبحة حتى تكون ثمينة وراقية ..؟قال أبو وسام : خامات المسابح تختلف بين نوع وآخر، فمنها الطبيعي ومنها المصّنع ومنها المجمع ، أما الطبيعي فهو مثل الكهرمان والمرجان والياقوت وغيرها .. وأما أسعار المسابح فهي تعود إلى جودة الخامة أولاً ، وثانياً الأسطة الذي خرّط (الجراخة) المسباح ، ثم الدولة التي صُنعت فيها ، كل تلك المواصفات تتحكم بالأسعار صعوداً ونزولاً ..أما عن علاقة حمل السبحة بالشخصية والحالة النفسية ..قال الحاج أبو وسام : مهما تكن البداية الأولى لظهور المسابح في أيدي الناس، إلاّ أن جميع شواهد تاريخ المسابح تؤكد على أهتمامهم بعدد من الصفات في المسبحة التي يستعملونها، مثل التشكيل من أحجار كريمة نفيسة وغالية القيمة ، أو لإضفاء مسحة من الثراء على الشخص، وكذلك الإهتمام بديمومة الإستخدام من خلال أختيار خامات الصنع المتميزة بقوة الصلادة والمتانة والتماسك، حتى إن بعضهم يصيبه الغلو في أختيار السبح فينتقي الأكبر حجماً والأثقل وزناً إمعاناً في إظهار القوة ورباطة الجأش وقوة الشخصية .وحول مهنة بيع المسابح ومكانتها وخصوصيتها قال أبو وسام : إن مهنة بيع المسابح من أرقى المهن الشعبية فهي من جانب تجارة مربحة وتدر خيراً كثيراً لمن أتقنها وعرف أسرارها وخبر صنعتها وعرف كيفية تسويقها وترويجها عبر الوسائل الحديثة..ومن جانب آخر هي مهنة إجتماعية تفتح لك آفاق العلاقات والصداقات الطيبة مع الكثير من شرائح المجتمع ومستوياتهم الإجتماعية ..وكذلك هي تدفعك إلى السفروالبحث والترحال لدول العالم المختلفة لجلب وأقتناء كل ماهو نادر وثمين لغرض عرضه لزبائننا الكرام ..وأخيراً قدمنا شكرنا وتقديرنا للحاج أبو وسام على ماتفضل به من معلومات قيمة عن تاريخ المسبحة وأصولها وأنواعها وحالاتها ..وغادرنا المحل لنكمل جولتنا على بقية المحلات لنستمع إلى آراء أصحابها في هذه المهنة التراثية الشعبية الجميلة ..ولكن في تحقيقات قادمة إن شاء الله تعالى ..
|