ثامر سعيد غُميضة شعرية |
كتاب الدستور |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب ناصر أبو عون |
النـص :
في نصوص الشاعر العراقي البصريّ ثامر سعيد يقع المتلقي في حيرة؛ بل يختلط عليه التأويل، ويدخل في حالة من التيه داخل مسارات النص، وهذا التيه لعبة يتقصَّدها الشاعر موظِّفًا دينامية (التشتت الدلاليّ) فنلاحظ الجملة الشعرية تنقطع عن تواصلها اللفظي اللغوي، وينجم عن ذلك يعجز القاري عن القبض على المعنى المتصل، ويسقط في دوامة من التشتت الدلالي الذي يتناثر على مسارات (التداخل اللغوي) داخل بنية القصيدة، مما يجبر المتلقي على إلى إعادة تنظيم بنيات القصيدة في محاولة حثيثة للفهم الذي يتعذّر من القراءة الأولى، وهو لا يدري أن هذه اللعبة مجرد فخاخ ينصبها الشاعر؛ لإيمانه أنّ الشعر لا يُسلم قِياده للمتلقي من القراءة الأولى ولا الثانية، وفي النهاية يدرك أن (التشتت والتداخل) ليست إلا بوابة وعتبة أولى للقبض على المعنى. على نحو ما نقرأ في نص: [(جوتيم بوكو)/وأنتِ تقلّمين الغصنَ الثامنَ/من شجرةِ آذار/أقولُ لكِ : جوتيم بوكو/وأنتِ تقشرينَ حبّةَ بصلٍ للغداء/أو تضعينَ عطراً فرنسياً فاحشاً/تحت أرنبتي أذنيكِ/قبل خروجنا إلى السهرةِ /وأنتِ تلبطينَ على صدري/كقصيدةٍ فارعةٍ/أو تعجنينَ نهديكِ بحنطةِ خَبالي/أقولُ لكِ : جوتيم بوكو /حين تُربكينَ الكونَ برعونتكِ المعهودةِ/أو تزرعينَ السريرَ بزهورِكِ المتوحشة /حين تشيدينَ حضاراتي بهياكلكِ البضّةِ/أو تحطمين هياكلي بصواعقكِ الشّبقةِ/جوتيم بوكو .. جوتيم بوكو]. ثم ينتقل ثامر سعيد بالمتلقي إلى متاهة جديدة تسمى اصطلاحًا بـ(إبهام العلاقات اللغوية) حيث تتفاعل اللغة الشعرية عبر علاقات من البناء النحويّ المبهم، فيدخل المتلقي مرة أخرى في حالة من التيه عبر مسارات تقودها علاقة (المسند والمسند إليه)، ويفقد البوصلة عندما يقع في شَرَك جديد منصوب عمدا بين المعاني المتناقضة، والصور المتنافرة فالشاعر يعدل عن التراكيب المعهودة إلى تراكيب مبتكرة، إمعانًا في الإبهام. ففي قصيدته (درسٌ في النَحو).. يمارس هذه اللعبة باحترافية متقنة، فيقول[على مقربةٍ من نهر الخندقِ في العشّار/حيث الدّروبُ مخفورةٌ بعُجْمتِها/لكنّ الفواختَ مازالتْ تنحبُ/بهديلٍ فصيح ,/حدّثني أبو الأسود الدؤلي/وكان شاحباً ضَجراً ..يُنقّطُ ويُشكّلُ ثم يُشكّلُ ويُنقّط/كمن يصنعُ في العَتمةِ قبعةً/للغةٍ صلعاء /قال: جمعُ المذكرِ ليس سالماً دائماً/فثمة جموعٌ مُهشَّمون في الأغاني والمعتقلات/ولا أمان لنونِ النسوةِ يا ولدي/تُسكّنُ حاضرَكَ وتسحبه مثل أرنبٍ من أذنيه/إلى عشبٍ مليءٍ بالصيادين /بينما تحنُّ إلى ماضيكَ فتُحركه وتُشدده/حتى آخر ورقةٍ من أغصانهِ /تلكَ الطاعنةِ في وحْشتِها/وهي تفكرُ في غريمتِها: الحياة/ألَم أقلْ لك أن الطبعَ يغلبُ التطبعَ ؟/ولا تثقْ بأحرفِ التَمن / فزَمانُكم حكايةٌ عمياءُ/تُبحرُ في قاربٍ مثقوب /وحاذرْ ثم حاذرْ ثم حاذرْ/لا يكنْ أولُكَ ساكناً ولا تلتصق بلا فِطنةٍ بها/غبيةٌ هي] يتغيا ثامر سعيد عبر هذه المتاهات اللغوية إحداث شراكة مع القاريء الأكثر وعيًا يمكنه إدراك العلاقات الجديدة بين الوحدات اللغوية داخل بنية القصيدة، فهو من خلال هذه الوحدات يصنع معجما شعريا جديدا، ويُوجد مناطق غير مأهولة يستنبت فيها واقعًا جديدا موازٍ للواقع المهتريء والمستهلك، إنه يحفر نهرًا، وتفريعات جديدة وجداول تنساب عبرها لغة ثانية غير معتادة، وإن كانت هذه الأمواه تتدفق من منابع اللغة الأم الأعظم، إنها تواليف بين الألفاظ والعلاقات، يصطنع ، بل يستحدث تراكيب لغوية حداثوية مبتكرة تسعى إلى إحياء لغة شعرية تفاعلية، وليست قوالب جامدة، تسعى إلى واستنباط علاقات لغوية مُشعة ومتشابكة، تضيء المناطق المعتمة في نهر القصيدة، يقودها وعي ومنطق صارم، تتشظى منها طاقات دلالية، محمّلة بأبعاد شعورية ونفسية، وتلقي بظلالها على النص الشعري، وتتولّد منها ظلال جديدة تحمل معانٍ أكبر من طاقاتها المعجمية التعيينية الثابتة داخل القاموس العربيّ، ومن هنا جاءت الحاجة في اللغة الشعرية عند ثامر سعيد إلى (الإيحاء)، وشتلات من (الغموض) الذي ينمو ويتشعّب داخل النص، متكئا على طاقة (الرموز) المشعّة. في نص:[(العاشقون)العاشقون الجميلون/وديعونَ كأحرفِ التنبيه/وطيبونَ بلا إدغام/كلّما تلبدتْ أرواحهم بالحنينِ/أشهروا دموعاً على السماءِ وقصائدَ/واضحونَ كالموتِ وطائشون كالمطر بقلوبٍ خضرٍ/يستدرجون البحرَ إلى مخادعِهم/ريثما في زرقتهم يغرقُ/ليطلقونه في الصباح/على هيئة غيومٍ ناعسةٍ/ينامون على غناءِ البردِ/بلا وسائدَ وأغطيةٍ/ليلقنوا الشتاءَ بعضاً من حرائقهم/أحلامهم أغصانٌ نزقةٌ/كلّما تشابكتْ/نسّقوها بعناقٍ وقُبل]. ثم يجيد ثامر سعيد فن الاشتغال على (الكناية) وتوظيفها كلعبة درامية قابلة للتأويل وتحميلها على معانٍ كثيرة وربطها بالقيم النبيلة المتوارثة والتي أضحت محض سراب في هذا الزمان بفعل تبدلات الحياة ودخول العالم العربي في الزمن الأمريكي وانسحاقه وتسليعه لكافة المنظومات القيمية في إطار براجماتي نفعي. على نحو ما نقرأ في قصيدته [غرفٌ سريّة (المرأةُ سرٌّ كلُّها) في الغرفِ السريّةِ, تُطبخُ الأسرارُ/الوضوحُ الذي قررَ في ليلةٍ ما/أن ينامَ على وسادةِ الأسرارِ/ماتَ بنوبةِ أرقٍ حادة/منذ أولِ أخويّةٍ ماسونية/حتى إيفون ستيف جوبز/الرموزُ تتناسلُ/وتتوارثُ الأسرار/في الغرفِ السريّةِ مواقدُ توقدُ/وأسياخُ تنضجُ بهدوء/بينما الشاعرُ المَحضُ/ينظرُ إلى لحمِهِ ويتساءلُ/أيُّ قصّابٍ فعلَ هذا؟] وفي الأخير يمكننا القول إنّ العناصر الدينامية داخل قصيدة ثامر سعيد تُسهم في تصنيع طاقة من الغموض المتقصّد انفلاتا من قص الرقيب المتربص باللغة، في إطار عملية توليدية تنشأ عن خيال رحب وشاسع هو نواة الشعر وجوهره تمارس دورا حيويا في في صناعة (التغميض) و(الغرابة) في عملية انحراف لغوي متعمّد يوظف الرمز يستقطب من خلاله المتلقي ويجبره على إعادة النظر في تأويل النص من خلال فك شفيرة الدلالة السياقية، ويعيد من خلاله إعادة بناء القصيدة لا كما كتبها ثامر سعيد بل كما فهمها وتلقها وعيه. في قصيدة[(الفتى الذي في الدّخان)[ خيمتُهُ السماءُ ونجومُهُ أسئلةٌ.. هو لا يعرفُ عن الحبِّ سوى أنه وردةٌ تحمرُّ من الخجلِ/ثم تخلعُ من فرطِ النشوةِ/أوراقَها/لتهبطَ مثلَ أغنيةٍ/على قارعةِ النعاس/ولا عن القبلاتِ سوى أنها تمرينٌ لإنقاذِ الشفاهِ/من التثاؤبِ/الفتى الذي ضَرَّجَ الأفقَ بالضجيجِ/كي لا ينامَ الليلُ/على فجرِ البلابلِ/لم يكن مكترثاً بوصاياكم النافقة] |
المشـاهدات 69 تاريخ الإضافـة 08/12/2024 رقم المحتوى 56723 |