عوالم هيثم محسن الجاسم قصص تمسك الحياة من كل أمكنتها |
فنارات |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب |
النـص : نعيم عبد مهلهل تحتفظ الناصرية بإرثها الثقافي والسومري وبرؤى تنتمي الى وجوه تعرف ان تصنع أحلامها من موهبة التخيل والكتابة وقراءة المكان وشخوصه بحرفنة وذكاء وخبرة ، والأديب الناصري يتملك رغبة روحية ليكون صاحب تميز في اشتغاله وطروحاته وإبداعاته ، قاصا ، روائيا ، شاعر ، نحاتا ، باحثا ، رساما ، ممثلا . هؤلاء هم من وضعوا لأرث المدينة أصولا إبداعية رصينة ومتقنة ، وفيها يحاولون ان يجعلوا الرؤية لديهم جهاديا طويلا لاكتشاف منابع الحلم التي تجعل الحياة متهيئة لتكون حلما أزليا للعيش والشرف والكرامة ، ليصبح المبدعون هنا أصحاب رسالة واضحة ومهمة ومؤثرة . القاص العراقي هيثم محسن الجاسم هو من بعض النماذج العريقة لما اسلفنا في رؤيتنا أعلاه عن ادب مدينة الناصرية ، وتمتاز عوالمه بفرادة الثيمة واعتماد على الحياتي الخاضع للاستلاب من الآخر ظالما كان ام مدفع حرب . لقد نجح هيثم الجاسم ليؤسس له نافذة كنا في مرات كثيرة نصغي الى قناعتها وعصاميتها وعزلتها وفي النهاية ان أتاك بقصة قصيرة جدا او بنص قصصي طويل فهو يحدثك عن الذي يشغل نفسه وهو يرى تناقضات هذا العالم وشخوصه التي ابتدأها في قراءاتي الأولى له عندما كان يراقب جحيم حرب اخذ اليها بفعل الإجبار لانه تخرج وعليه ان يذهب لها ، وطالما في بدء تأسيس اتحاد الأدباء في الناصرية ، كنا ننتبه الى هيثم محسن الجاسم وهو يوزع قصصه بينما او نصغي اليها في ندوات القصة فنراه حادا في النقد ويبدو متضايقا من تلك البيئة التي تجمع فيها هواجس الخوف من الشظايا والأوامر التي تجبرك ان تطيع من هو اعلى منك رتبة ،وبالرغم هذا كان هيثم الجاسم يقول لنا في قصصه :هناك في الحرب لن تكون سوى الويلات . أتذكر قصص هيثم محسن الجاسم في بواكير رغبته لينشئ لنا سردا يليق بخصوصية أحلامه ، وبالرغم من العنف داخل السردية والحبكة المعجونة بأسى ما يشعره حتى مع موت بغال الحرب إلا انه كان يوصل في مدلولات رؤيته رسالة رفض ومجابهة وموقف . ولم ازل احتفظ بمجموعته عودة طائر الفجر التي أردت الجميع تقنية بناء جديدة في الحلم القصصي الذي سكنه وقد كان يحتفي خارج أوطان عوالمنا فيذهب الى تجربته وبيئات ما كان يتعرض فيها لحرج الحرب والمعايشة من الأهوار حتى اخر نقاط حزن أبطال قصصه ، الذين يسكنهم الاستلاب وكما في عودة طائر الفجر ظل هيثم الجاسم يبحث عن نافذة للحرية والأمل لكل أبطال هذه القصص ،وربما عودة الطائر فجرا هي من بعض الآمال التي أراد فيها الجاسم من خلال أبطال قصصه ان الحياة هي ان تكون مستحيلا لتعيش ضد اي قهر وفقر وحرب. الكثير كتبوا عن تجربة هيثم محسن الجاسم ، فلا أريد ان أكرر رؤاهم بعالم سردياته المتنوع والذي مر بفترة سبات بسبب العيش ومستلزمات الحياة ومواهب اخرى ومنها عمله الإعلامي ، ولكنه في النهاية يعود الينا بحماس اله سومري ليرنا هاجس الحلم وقدرته على ديمومة الإنتاج والولادة وصناعة الحلم . ولهذا سألتفت هنا الى كتاب قصصي أعجبتني طروحاته وحداثة تناوله في ومضة النص القصير الذي يتشابه تماما مع الرؤية التي يبحث عنها الهايكو الياباني واقصد مجموعته السردية ( موت آخر أمراء الأكشاك 2019 ). وإذا كان الهايكو الياباني يحمل الفكرة الشعرية كهاجس يضيء بلحظة فأن قصص كتاب هيثم محسن الجاسم تمتلك ومضتها السردية بتفرد المعايشة من واقع محزن لبلاد ظل هيثم وعلى الدوام يبحث الخلاص من أجلها وكأنه يريد من كل أبطال مجاميعه القصصية ان يكونوا صوتا للحياة الرافضة والتي تبحث عن الحلم وبإصرار وشجاعة وحتى بشاعرية وهو ما تكتشفه لنا تلك الهايكوات السردية التي اعتنى بها هيثم محسن الجاسم لتكون هذه المجموعة القصصية رسالة شجاعة تحمل صوت البشر الذين ظل القاص السومري يبحث عن خلاصهم كما كان يبحث في ذلك أبطال أساطير السومريين القدماء. كانت المجموعة بمقدمة من الصديق حسن البصام وتعمدت ان لا اقرأها كي لا أتأثر بها ، وان أعيش بخصوصية رؤيتي عن هذا الكتاب ، لأكون منصفا وحتما ستختلف رؤاي تماما عن رؤى البصام وطريقته في تناول سرديات صديقنا هيثم محسن الجاسم واصل مقالتي هو إنني أردت ان اركز وأشير الى طبيعة عوالم السرد وهاجس القصص التي يشتغل عليها الجاسم بحكم صداقة عهد بعيد من مودة العيش المشترك في البيئة الواحدة والمحلة السكنية الواحدة والحلم الواحد . ولهذا فأني هنا سأقتفي البنية البانورامية لتلك العوالم من خلال جانبا واحد من الكتاب وهي تلك الومضات السكونة بقوة اللغة والرغبة لتكون مؤثرة وحائط صد عن الكثير من الذين يعتقد الجاسم انهم ضحايا الدكتاتوريات والإرهابيين والحروب التي عاشها العراق طويلا والصفقات الفاسدة .
في ومضات السرد سنكتشف مع القاص انبعاث فكرة البحث عن الخلاص ، وربما تأتي بعض تلك الومضات وهي تتشح بغرائبية وسريالية عجيبة ولكن مفهوم رسالتها المتحدية واضحا ، ولهذا ستكتشف مع نص هذا الكتاب تلك التحديات والقوة في طرح الهم والحلم وطريقة الخلاص . غير ان تلك الومضة السردية اختلفت تماما عن عشرات القصص التي قرأتها لهيثم الجاسم إذ نتفاجيء هنا بشعرية غريبة ترتديها القصة لتتقارب تماما من رسالة الهايكو الإنسانية في كشف ما في الذات من رؤية وحلم ورسالة ، غير انه هنا مع الكم الهائل لتلك الشاعرية يبرز لنا الفعل الحقيقي في ومضة القصة القصيرة التي يعدها البعض من اصعب متناولات القص في عوالم السرد ،ومن يقرأ قصص الكتاب بعمق سيكتشف احترافية الكاتب وعنايته باللغة والتركيز وإضاءة الفكرة بما يريد إيصاله للقارئ ،وربما البعض يرى اغلب تلك السرديات إشارات عميقة لما يريد ان يجعله هيثم الجاسم تضامنا مع حقوق أبناء شعبه ضد من يريد ان يصادر أحلامه .وتلك رؤاه منذ ان احترف ( هيثم الجاسم ) الكتابة في ثمانينات القرن الماضي. وفي محاولات الانمذجة لتلك القصص المسكونة برسالة الومضة وقصدها ومعظمها تضامنية مع أحلام الناس البسطاء في محاولات إيجاد الممثل الحقيقي لطموحاتهم سنضع هنا . نماذج لنصوص وسنرى تدفق المناجاة فيها وكمية البوح والتكثيف وبلاغة الصورة ، لتأخذ مرات لتكون ومضة شعرية ولكنها تبحث عن مخرج وثقبا تولج من خلالها أماني أبناء مدينته في أحلامهم من اجل الحياة الرغيدة :
فقدان عثر على صفته المفقودة وسط الركام؛ شخصية ممزقة.
نهاية الكرسيُّ الذي دفع كلّ ما يملكُ كي يحصل عليه ويُنفّذ مآربه الوضيعة من خلاله؛ حمله جند الاحتلال معهم تذكارا.
هداية بحث عن الله في الصحراء والجبال أربعين عاما، رمى الله نورا في قلبه؛ وزعه على قلوب الناس.
حكمة يؤكدون أن الحياة تنتهي بموت الذكر؛ اعتقد انا بموت الضمير.
حنين أراها بعيني أو بقلبي؛ وبالوالدين أحسانا.
حب مؤجل تسحب خيطا أوله بعقلها وأخره بقلبي؛ هارب من وطيس المحاولة.
لاوعي
تعطل الدوام للحد من انتشار الوباء؛ ذهبوا للنزهة في "مولات" المدينة.
هزلت
فشلوا المجاهدون؛ عمدوا بنت الطاغية الراحل لمواصلة الولاية. هذه الانمذجة المكثفة للسردية الشعرية الجميلة في كتاب الجاسم القصصي ( موت اخر أمراء الأكشاك ) ترينا وعيا قصصا ثاقبا وانحياز الى الحالمين والمسحوقين وحتى المغدورين والمقتولين بالتفخيخ او شظية الحرب وهي تواريخ عوالم هيثم محسن الجاسم التي اعتنى بها منذ ان كتب القصة القصيرة والى اليوم . ومتى أعدت قراءة تلك السرديات المضيئة ستكتشف ان كمية الشعر نفخت في متغيرات طرائق السرد التي تعودنا عليها عند هيثم الجاسم وأتى الينا بهواجس اخرى أراد فيها ان يغير طريقة وعي بطل القصة لديه فكان يستخدم طريقة الكتابة بالإنابة عن الأنا .والانا هنا هو الكاتب نفسه ( هيثم ) الذي استخدم معه خطاب الأمنية والحلم والمتغيرات ، وفي تلك السرديات عندما توغل فيها وتنظر اليها كنموذج لهايكو قصصي سترى تبادل الأدوار بين النفس الصوفي والنفس السريالي كما في نصه الجميل ( إغواء ) ، هذا الهايكو الممتع الذي يرتدي قمصانا سومرية وليس قمصانا يابانية: (( تحاول قوى غاشمة قطف أزهارها المتفتحة؛ فتاة تتدفق شهوة ترقص ثيابها بغنج.)) انها سردية الشعر وهي تضع لها مسارات الرؤى في اتجاه ان يكون موت اخر أمراء الأكشاك هو تنبيه ولافته يرفعها القاص عن اؤلئك الذين يبحث عنهم في زوايا جسده وروحه ليراهم ينحبون ويبكون بسبب فقدان فرص الحياة ، فيخرجهم من جوفه ويضعهم في كتابه القصصي وهو بذلك يكون أمينا في نقل معاناتهم وبصدق . ومن معانته غضب الكاسب وانفعاله للدفاع عن كشكه من التهديم فكانت النتيجة التي نقلتها التفاصيل الأخيرة من دموع واحد من أمراء أكشاك هذا الوطن : هذه هي ومضات السرد مسكونة بجمالية التناول والهموم أنارت في قراءتنا هواجس الحياة المسكونة بالمفارقة وتعدد مشاغلها التي لا تحصى وحاول فيها هيثم محسن الجاسم ان يجد لنا ارتباطا حسيا وثوريا ووجوديا وشعريا ليربط كل شخوص الومضات بأنا العين التي تراقب الحدث وتناجيه وتتحدث معه وتحاول ان تذهب به الى نافذة الأمل وقارب النجاة .وهو ما كانت الومضات ترمي اليها وتتحدث عن إفرازات كوامن القاص ورغبته ان يكون وفيا لرسالته الإبداعية والإنسانية. في الجزء الثاني من المجموعة تأتي القصص القصيرة ، واقرأها فأراها امتدادا وفيا لخصوصية السرد ومتناولاته التي بقيت تميز قصص هيثم الجاسم عن قصصنا . ومن بين تلك القصص التي مسكت مضامين الرسالة الإنسانية والأدبية التي يعتبرها الكاتب أيمانا وطنيا تأتي القصة التي حملت عنوان المجموعة ( موت اخر أمراء الأكشاك ) والتي اعتقد انها كتبت بروح النبوءة التي ميزت شعراء وكتبة اور في نسج مخيلة الأحلام وارتباطها بمصائر البشر وأرزاقهم . وهي محاكاة لما يحدث الآن بين أصحاب الأكشاك وسعي الدولة للتخلص من التجاوزات والتي انتهت في اخر محطاتها الى ضرورة الأهمام بأصحاب البسطيات من الفقراء لان هذا مصدر رزقهم رغم الفوضى الحضارية التي تعيق جمالية المدن وتخطيطها العمراني . لكن موت اخر الأمراء هنا مثلت دراما لحدث مأساوي تنقله وقائع رؤية القاص في العلاقة بين السلطة ( الشرطي ) وصاحب الكشك وأطفاله الذين ينتظرون رزقه . كانت هذه القصة الحدث الروحي للماسي التي تناولها هيثم محسن الجاسم في الكثير من نصوص الكتاب .وحاول فيها ان يضعنا أمام الحياة بصورتها الحقيقية ، وهذه القصة الأنموذج الأقرب للتصورات الذهنية ومشاهدات اليوم الذي ينظر اليه القاص كل يوم في المسافة مابين دائرته وبيته ، ولهذا أتت قصة امير الكشك هذا تحمل عمقا روحيا وتعبيرا انتهى بتلك الفاجعة التي رسمها لنا هيثم الجاسم في نهاية القصة بوحي تفصيلي من تلك المشهدية السينمائية التي تنتهي بها حياة واحد من أمراء الأكشاك الذين يفضلون الموت على انقطاع أرزاقهم :
(( هنا احتدم أوار الغضب بين قطبي النزاع. مد الشرطي كفة وامسك بتلابيب ثوب الكاسب وسحبه اليه وصاح بوجهه: انت تمتنع عن تنفيذ القانون.. جره ليرميه في حوض السيارة. امتنع الكاسب بعناد وسحب قبضة ثوبه من يد الشرطي ودفعه. ركض شرطيان، لبوا نداء استغاثة زميلهما، تحلقوا حول الكاسب المحاط بحلقة من الكسبة الآخرين. بدا الشجار يسخن وطيسه، تشابكت الأيدي، وسمع إطلاق نار بالهواء انطلق من بنادق باقي الشرطة لتفريق الناس المتجمهرين للفرجة. ارتفع صراخ المتشاجرين من الكسبة والشرطة بسبب تبادل الضربات بالعصي والبنادق. حاول الكاسب ان يسدد ضربة بقضيب حديد لراس أحد أفراد الشرطة لكن إطلاقة مزقت الهواء مدوية لتطوح بجسده في الهواء لينزف دمه على أسفلت الشارع ويكون اخر أمراء مملكة الأكشاك التي امتد حكمها لأربعة سنوات في شارع النيل.))
وأخيرا فأن عوالم هيثم محسن الجاسم في كل نتاجه وتراثه القصصي يمثل صورة إبداعية ، واعية وجميلة ومخلصة للمشهد الثقافي لمدينة طالما انتجت لنا مبدعين رسموا الخريطة الملونة لثقافة وحضارة هذه المدينة الباسلة ( الناصرية |
المشـاهدات 73 تاريخ الإضافـة 08/12/2024 رقم المحتوى 56724 |