البناء المتعدد الأبعاد في "مواسم لحمارِ الأسفار" للشاعر عادل مردان |
فنارات |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب الدكتور عادل الثامري |
النـص : تمثل قصيدة "مواسم لحمارِ الأسفار" لعادل مردان نموذجاً فريداً للشعر في تعامله مع الزمان والمكان والعواطف. تتميز القصيدة ببنائها المجزأ الذي يتيح للشاعر التنقل بين أزمنة وأمكنة متعددة، مع توظيف بارع للتباينات العاطفية والتجاور الحسي، ما يخلق نسيجاً شعرياً غنياً ومعقداً يعكس تعقيد التجربة الإنسانية المعاصرة. التحولات الزمانية والمكانية: يسهّل البناء المجزأ للقصيدة تحولات درامية في الزمان والمكان، مما يخلق إحساسًا بالشمولية، تستحضر التاريخ القديم: الإشارات إلى إنليل (المقطع 1) وأريدو (المقطع 12) الحضارة الرافدينية القديمة، والحياة الحضرية المعاصرة: ذكر الأسواق (المقطع 2) والقطارات (المقطع 3) ينقلنا إلى الحاضر، والمشاهد الطبيعية: أوصاف أشجار النخيل (المقطع 6) والنجوم (المقطع 4) تقدم صورًا طبيعية خالدة. تخلق هذه التحولات حوارًا بين الماضي والحاضر، والريف والمدينة، مسلطة الضوء على استمرارية التجربة الإنسانية عبر الزمان والمكان. على سبيل المثال، المقارنة بين أريدو القديمة وممالكنا الغافية في المقطع 12 توحي باستمرارية الحضارة مع الإشارة أيضًا إلى الواقع السياسي والاجتماعي الحالي. تعد تشظية الزمن سمة مركزية في القصيدة، حيث يتداخل الماضي والحاضر والمستقبل باستمرار. في المقطع 12، يشير المتكلم إلى أريدو، المدينة السومرية، بوصفها "قبلة الأوائل". يتبع هذه الإحالة التاريخية تأمل في الحاضر في المقطع 15، حيث يتأمل الشاعر في الطبيعة الدورية للزمن، ممثلة في استعارة "الأيام تتساقط من شجرة الزمن". هذه التحولات الزمنية والمكانية تخلق نسيجًا من الصور والأفكار، مما يعكس تعقيد التجربة الإنسانية وترابطها عبر العصور والثقافات المختلفة. كما أنها تدعو القارئ للتفكير في العلاقة بين الماضي والحاضر، وكيف يمكن للحظات عابرة أن تحمل صدى الأزمنة الغابرة. هذا المفهوم الدائري والمجزأ للزمن يعكس الموضوع الأوسع للحيرة الوجودية. يبدو الشاعر واقعاً بين ثقل التاريخ وغموض المستقبل، كما يتجلى ذلك في الأسطر الأخيرة من القصيدة، حيث يعلن عن "رغبة في حراثة المستقبل". يعكس تشظي الزمن صراع الشاعر للعثور على معنى في عالم يقاوم الترابط والانسجام. وفيما يخص المكان، يعد التفاعل بين الصور الطبيعية والحضرية موضوعا متكررا في القصيدة. في المقطع 2، يوصف "السوق القديم" بأنه "زريبة الذباب"، مازجاً بين التجارة الحضرية وصور الحيوانات، ويقابل المقطع 6 بين "طريق شائكة بين النخل" وحقائب السفر، ما يرمز إلى التوتر بين الجذور الريفية والرحلات الحضرية، في حين ان المقطع 10، يُشخَّص قشة وهي تتأمل رحلتها من الريف إلى "ضجيج المدن". يسلط هذا التجاور الضوء على موقف الشاعر (أو الصوت الشعري) عند تقاطع التقاليد الريفية والحداثة الحضرية. يستكشف الشاعر وعبر هذه المقابلات الهوية المتغيرة والتوترات الناتجة عن هذا التحول. فالسوق القديم الذي يوصف بزريبة الذباب يمثل تداخل الماضي مع الحاضر، بينما تمثل القشة المتأملة في رحلتها إلى المدينة الصراع بين البساطة الريفية وتعقيدات الحياة الحضرية. ولا تعكس هذه الصور المتباينة التغيرات المادية في البيئة فحسب، بل تشير أيضًا إلى التحولات الداخلية والنفسية التي يواجهها الفرد في خضم هذه التغيرات. وهكذا، تصبح القصيدة تأملاً عميقًا في الهوية والانتماء في عالم سريع التغير، تتشابك فيه الذكريات والتقاليد مع تحديات الحداثة وتطلعات المستقبل. التباينات العاطفية تتميز قصيدة "مواسم لحمارِ الأسفار" لعادل مردان بقدرتها على الجمع بين حالات عاطفية متباينة، غالباً ضمن المقطع الواحد. هذا الأسلوب يخلق نسيجاً غنياً ومعقداً من المشاعر والتجارب، يعكس تعقيد الحياة الإنسانية وتناقضاتها. ففي المقطع 9، نجد مثالاً بارزاً على هذا التباين العاطفي. يصور الشاعر فرح الشمس في شهر آب، لكنه سرعان ما يقابل هذا الفرح بمشقة القيظ. هذا التناقض الصارخ بين البهجة والمعاناة بعكس الطبيعة المزدوجة للتجارب الإنسانية. فالصيف، بكل ما يحمله من وعود بالإجازات والوفرة، يحمل أيضاً معه مشقة الحرارة الشديدة. هذا التصوير يدعونا للتأمل في كيفية تعايش المتناقضات في حياتنا اليومية. ينتقل الشاعر في المقطع 11 إلى صورة أخرى مليئة بالتناقض العاطفي. هنا، يقرن بين رقة اليمام وخوفه من الليل. هذا الجمع بين الرقة والخوف يمكن أن يُفهم على انه استعارة للضعف الإنساني أمام قوى الطبيعة أو الحياة الأكبر. كما أنه يعكس كيف يمكن للمشاعر المتناقضة أن تتعايش داخلنا، مذكراً بتعقيد النفس البشرية. تحقق هذه التباينات العاطفية أهدافا فنية وفلسفية في القصيدة. فهي تعكس تعقيد الواقع، وتخلق توتراً درامياً يثري النص. كما أنها تصور الصراعات الداخلية التي نواجهها كبشر، وتدعو القارئ للتأمل في طبيعة المشاعر والإدراك البشري. وعبلا هذه الصور المتناقضة، يخلق الشاعر تجربة قراءة غنية ومعقدة تتجاوز التبسيط والتصنيف البسيط للمشاعر. التجاور الحسي يتميز أسلوب عادل مردان في قصيدة "مواسم لحمارِ الأسفار" بتوظيف فريد للتجاور الحسي، حيث يمزج الشاعر بين حواس متعددة في تركيبات غير متوقعة، وهذا يخلق تجربة شعرية متعددة الأبعاد. في المقطع 4، نجد مثالاً بارزاً على هذا التجاور الحسي، حيث تقترن الصورة البصرية للنجمة التي تضيء الأغوار بالإحساس اللمسي للقفازات السوداء المذكورة في المقطع الأول. هذا المزج بين الحاسة البصرية واللمسية يخلق صورة شعرية مركبة، تجمع بين الضوء والظلام، بين البعيد والقريب. كأن الشاعر يدعونا للمس النجوم بأيدينا المغطاة بالقفازات، في استعارة قوية للتجربة الإنسانية التي تسعى دائماً لفهم وملامسة ما هو بعيد وغامض. ينتقل الشاعر في المقطع 10 إلى تباين آخر بين الحواس، حيث يقابل الضجيج الصوتي للمدن مع الصورة البصرية والحركية للقشة التي تحملها الرياح. هذا التباين يخلق مفارقة حسية قوية بين الصخب الحضري والهدوء الريفي، بين ثقل المدينة وخفة القشة. من خلال هذا التجاور، ربما يشير الشاعر إلى الصراع الداخلي للإنسان المعاصر بين جذوره الريفية وواقعه الحضري. أما في المقطع 14، فنجد أنفسنا أمام تجربة تداخل حسي كاملة، ناتجة عن حالة السكر. هنا تمتزج الحواس المختلفة بشكل سريالي، حيث يموء المصباح وتنبح الأريكة. هذا المزج الغريب بين الحواس يخلق صورة مربكة ومثيرة في آن واحد، تعكس حالة الارتباك والتشوش التي يمكن أن تنتج عن حالة السكر. يخلق هذا الثراء الحسي والتجاور تجربة شعرية غامرة تماماً، تشرك القارئ على مستويات متعددة. من خلال هذا المزج الحسي، يخلق الشاعر عالماً شعرياً غنياً ومتعدد الأبعاد، حيث تتداخل الحواس وتتفاعل، مما يعمق تجربة القراءة ويجعلها أكثر حيوية وإثارة. إنه يدعو القارئ إلى تجاوز الحدود التقليدية بين الحواس، وإلى استكشاف العالم بطريقة أكثر شمولية وعمقاً. تعكس هذه التقنيات تعقيد التجربة الإنسانية وتعدد أبعادها. |
المشـاهدات 116 تاريخ الإضافـة 08/12/2024 رقم المحتوى 56769 |