سيمياء النسق الشعري في " اشجار بلون الهديل" قراءة في ديوان اشجار بلون الهديل الشاعر سعد ياسين يوسف. |
فنارات |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب |
النـص : أ. د . فرحان بدري الحربي جامعة بابل
في اللغة الشعرية تأخذ دلالة اللفظ خطاً أفقياً عند الاستعمال ولا تفقد علاقاتها السياقية في انتمائها الى حقلها الدلالي في اللغة، بمعنى أنها تتخذ في كل مرة يعاد فيها استعمالها نظاماً جديداً من حركة التدليل. فعند تغيير نظام علاقاتها النسقية في الاستعمال تنتج دلالة جديدة، وهذا ما يقوم عليه الإبداع الشعري، فهو كلام فردي له ما يميزه من غيره في الاستعمال اللفظي. وقد افضى (جون لاينز) في كتابه (اللغة والمعنى والسياق) حديثا في هذه القضية بيد أن مقصد كلامه يصعب استيعابه الا بالعودة الى ما عرضه عبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة 471 للهجرة في كتابه دلائل الإعجاز ضمن نضرية النظم.
وعند الاطلاع على مجموعة الشاعر سعد ياسين يوسف المعنونة (اشجار بلون الهديل) نجد تلك الانزياحات الدلالية وقد أنتجت دلالة سياقية تحتكم الى النسق الشعري داخل النصوص لتشتغل ضمن مستوى النسق الشعري الخاص. وتبدأ عجلة التدليل الشعري منطلقة من المخيال الشعري عند المؤلف لتتموضع على سطح الكلمات فتمارسَ وهمَ التصديق في ذهن المتلقي ثم تنفلت حلقة الدال الى مدار اخر لتصنع محوراً جديداً للتأويل في الذهن. ولكثرة هذه الممارسة الدلالية في هذه المنظومة الشعرية في مجموعة اشجار بلون الهديل يصبح تحديدُ مسارِ الدلالة اللغوية الفرضية أمراً صعبَ الإدراك في مرحلته الاولى ويحتاج الى مراسٍ ودربة، وقد لا ينجو القارئ العادي من التأويل المخل بالمعنى الشعري، اذ قد يعجز عن ادراك مقصدية النص، إذ انها تتطلب توخي الدلال النسقية في بعدها الأفقي على الورقة الشعرية من دون إغفال لبعدها السياقي في الاستدعاء لحقلها الدلالي في اللغة، لتقوم معادلة التدليل على الموازنة في ذهن المؤول الناقد.
ينبثق نموذج التدليل في هذه المجموعة من عملية تراسل الحواس منذ لحظة العنوان الاول ٠اذ تتماهى لفظة الأشجار بما توحيه بمادتها اللونية، المدركة بصرياً، مع الهديل، وهو مدرك صوتي، فيتّحد المحسوسُ البصريّ بالمحسوس السمعي. ينتمي هذا النموذج الدلالي الى الاستعارة بمدلولها الواسع ليشمل كل باب المجاز وهو ما أشار إليه (آي اي ريتشاردز)، فتكون استعارة الهديل الى اللون ذات بعد انزياحي للدلالة من خلال الاسناد او الإضافة فيأخذ المستعار والمستعار منه شيئا من المستعار له حيث تبنى الاستعارة على الاستدعاء وليس الاستبدال، فتظهر المدلولات المتحدة في الوقت نفسه سوية مع استدعاء الدوال نفسها، لتكتمل عملية التدليل في ذهن المتلقي في حال تلقيه لهذا النمط من التركيب اللفظي.
فالأشجار جمع شجر او شجرة كائن حي نباتي غير ناطق، وهو في هذا النص غير معرف، والهديل هو صوت الحمام فيما شاع في لغة العصر، وقد تداعى المعنى النصي من خلال فرضية الاستعارة المكانية فالشجر هو موطن الطيور في الطبيعة حتى صار استبدال المحسوس البصري بالسمعي ضمن منظومة دلالية خاصة في النص. هذا في المستوى العميق في استنباط الدلالة النسقية، اما في المستوى الظاهر ضمن البعد اللغوي العام فإن الدوال لها دلالات سياقية عامة بحسب ما دونته المعاجم وكتب اللغة. ففي المعجم توجد مادة شَجَرَ والشجرة الواحدة تجمع على الشجر والشجرات والأشجار، والشجر من النبات ما قام على ساق بنفسه. واما لفظ هديل فجاء بمعنى الرجل الكثير الشعر كما انه يعني صوت الحمام او صوت الهدهد وقد يطلق على ذكر الحمام الوحش. والأخذ بظاهر الدلالة يوقع بالتناقض في الإدراك، والتعاضل في المسالمة التدليلية بين مدرك مادي بصري ومدرك حسي صوتي، وان حل هذا الارباك يكون بما قدمنا من ادراك الدلالة السياقية في النص لذاته. وهذا ينطبق على عمليات التدليل الاخرى في اغلب عناوين النصوص في المجموعة مثل (شجرة الماس ، و ما تطحنه الحرب، و حرف على بياض الأفق، وشجرة قلبي، وظل اخضر، وشجرة اليمام، وافق التواريخ، وغيرها.
من امثلة ما ورد في هذه المجموعة من انزياح في المستوى الدلالي ما جاء في نص "شجرة الماس" ابتداء من عنوانها فمن خلال الاضافة للشجرة اكتسب الماس روحاً حية واكتسبت لفظة شجرة بعض معاني الماس من الصلابة واللمعان ونفاسة الثمن. لكن ما تضمنه النص من خصوصية في استعمال بعض الالفاظ جعل للنص مستوى آخر من الادراك من خلال النظر الى الانزياح في المستوى الدلالي إذ صار له نسَق خاص من التسنين وهذ يوفر للمتلقي فرصة إدراك الجمال في خوضه عملية فك السنن وصناعة نظام دلالي جديد بالاقتراب من خلال المخيال الشعري الذي كون نظاماً فنياً اكتنز الجمال في الفكرة الشعرية. يمكن تحقق ذلك من خلال قراءتنا لدال الجدائل وما يوحيه من دلالة خاصة في النص ضمن قوله (وخطت على الارض جدائلك). حيث تحول من حقل المرأة او الانسان الى وصف الجزء من الكل في المكان "المدينة" فالدلالة السياقية للجدائل تفيد خطوط الخرائط المرسومة على الارض وهي تحمل دلالة مركزية خاصة بالمدينة "بغداد" التراثية المعنية بالوصف الشعري فالجدائل تعني النهرين دجلة والفرات من خلال دال التثنية التي اقترنت بنهري العراق اذ من المعلوم أن الضفيرتين المصففتين من شعر المرأة تسمى جدائل وهي قد لا تزيد عن الاثنتين. اما لفظ الجدائل في المعجم فمأخوذ من جَدَل والجدل يعني شدة الفتل والإحكام في الحبل، وفي تطور الاستعمال الدلالي لذلك اللفظ شُبهت بها ضفائر المرأة المفتولة كالحبل ثم استغني عن التشبيه فصارت الضفائر تسمى جدائل. بيد ان هذه اللفظة " جدائل " مرتبطة في هذا النص بالمكان الارضي فتحولت دلالتها من النسق العام في اللغة الى النسق الخاص في الشعر. في استعمال اخر صارت وصفا للشمس فنجد النص(تسرحين جدائل الشمس)ص٤ وفي هذه الاضافة يعمل المخيال الشعري على صناعة صور جديدة من خلال الفكرة اذ جعل للشمس جدائل والمدينة تسرحها.
ونجد انزياحا دلاليا اخر في اضافة اللون الى النار في مقطع " وكلما اشتعلت في عينيك نيران الخضرة "حيث تسببت الاضافة بانزياح دلالي واسع من خلال جعل وصف الخضرة للنيران. وجملة (نبذتِ قميصَ خوفكِ) تكمل فعل التحدي المسند فرضياً الى المدينة.
نجد التعاضل بين الدلالتين في المستوى الأول عند تلقي الدلالة، بيد ان التآلف بين فكرة الجمال في الياسمين وارادة الحياة المتجددة في الصبح الذي يعني البداية بعد الظلام يستدرج المتلقي لإدراك النسق الشعري. ويعمل على تحفيزه لمواجهة كسر أفق التوقع ليعيد إنتاج المعنى المناسب من خلال استيحاء محنة الغزو وما تسبب به من حدث سحق حوافر الخيول لجمال المدينة. فالصدمة التي سببها كسر أفق التوقع جعلت المتلقي يبحث عن المعنى المناسب لترسيخ الفكرة عند إعادة التسنين بعد فك السنن وتجاوز المستوى القريب في الادراك الى ما هو أبعد منه لملائمة المقصدية الشعرية.
يصنع الانزياح نسقا دلاليا مختلفا من خلال الإضافة اذ جعل للوقت فراشات وجعل للنهار بيت والمرايا التي تفيد وهم الانعكاس كاذبة. وكذلك ما نجده في مقطع (الريح التي هادنتك - تنازعك اساور الحلم التي خبأتها- الترانيم الصاعدة - في فضاء رهبة الجذور)
في بعض القصائد المجموعة تأتي الدلالات على نسق واضح مستجيبة لإرادة النص في الإفصاح عن العاطفة أكثر من التوجه الى البعد الجمالي فيكون المخيال الشعري مهتم بالفكرة أكثر من الصياغة اللفظية فتاتي الألفاظ متسقة مع المطلب التعبيري الواضح من خلال وصف العاطفة او الموقف تجاه الحدث وهو ما نراه في نص (وردة حمراء في يد شاحبة) اذ يسير النص باتجاه دلالي واضح فنقرأ في مقطع (انقطع الانين - لا من قال- فالأسقف المنهارة تعلو بالشهيق) الى ان يصل الى مرحلة التماهي مع صوت الأمل ممثلا في السماء في مقابل صوت الواقع ممثلا بهديل المحركات والفؤوس التي تكسر احجار العمائر المهدمة جراء الزلزال فيأتي مقطع (فللسماء ما يشبه الهديل - ويشبه النشيج- هل انقطع الانين) وهذا الأمل يأتي في مواجهة مع الواقع الذي لا مفر منه. |
المشـاهدات 65 تاريخ الإضافـة 13/12/2024 رقم المحتوى 56940 |