تمثلات الترميز والفانتازيا في مجموعة (تمثال الملك الباكي) |
فنارات |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب د. سمير الخليل |
النـص :
ترتكز القصص العشرون لمجموعة (تمثال الملك الباكي) الصادرة عن (دار الشؤون الثقافية العامة- بغداد، 2024)، للقاص عبد الأمير المجر على الاشتباك مع الواقع واستلهامه وتقديمه على وفق صياغة ترميزية للابتعاد عن السرد التقريري المباشر والمضامين الواقعية المستهلكة التي لم تعد تتناغم مع إفرازات وتحوّلات الميدان الحياتي، وتأزمّاته وتعقيداته وما شهده من صراعات ومظاهر تقتضي المعالجة الجمالية والفكرية معاً، وتجنّب التوثيق والرصد المجرّد، ولذلك نلحظ أن النصوص وقد توافرت على دقة وبراعة الخوض في ثيمات الواقع الملتبس الجديد، وتقديم الشخصيّات التي تعاني في صراعها مع إحداثيات وتحولات الواقع وتعاني صراعاً مع أعماقها وتكوينها وشرطها الوجودي، وعلى ضوء هذا الاشتغال توغلّت قصص المجموعة في عوالم الترميز وانزاحت احياناً إلى المفارقة الفادحة أو الفانتازيا لاستكمال هذا الاشتباك والغوص في قاع وأعماق المجتمع بعد قبح الحروب والحصار وأزمة الإنسان، ووجود المؤثرات والمهيمنات التي أفرزها البعد السياسي والوجودي والسايكولوجي، واتّسمت أيضاً بوجود تنويعات، ولم تسلك نمطاً أو تكراراً، فكلّ قصّة اتخذت فضاءً ومساحة تختلف عن الأخرى، ومن خصائص الاشتغال السردي أنّها اتّخذت من الإنسان محوراً ارتكازياً للثيمات المطروحة وزاوجت بين المأزومية السياسية والمأزومية السيوسيولوجية. وإذا ما تناولنا عتبة العنوان فسيميائية الدال تحيل على استعارة شكل الأسطرة الشعبوية للملك (المزعوم)، وتحقيق أجواء فانتازيّة وترميزيّة في وصف رأس السلطة ورمز التملّك ممّثلاً بتمثال (الملك الباكي) والمزاوجة بين واقعية الشخصيّة ورمزيتها، وتحويل الطاقة السلطوية إلى نوع من غسيل المخ وتصدير الميثولوجيا حول شخصيّة المتسلّط من خلال تحويله إلى (تمثال) وتصديق كلّ الروايات والتخيلاّت عنه، وذلك رصد لقصور وطبيعة المخيال الشعبوي في تضخيم صورة الحاكم الانفرادي، وتمثّل دالة (البكاء) قدرة السلطة على تصدير الخداع وتمرير خطابها الزائف، وقد سميّت إحدى القصص بهذا العنوان من باب إطلاق الجزء على الكلّ وهذا المضمون، وسنأتي على تحليلها ومقاربتها نقدياً. وفضلاً عن المضمون السياسي والإنساني للمجموعة فإن القاص عبر ميله لتجاوز النسق السردي المباشر لجأ بل وظّف النسق الفني والجمالي بإبداع واضح، فمعظم القصص كان الصوت المركزي فيها قائماً على صوت الذات، والسرد الذاتي بصيغة ضمير المتكلم، فضلاً عن الاختزال والتركيز على بؤرة المضمون السردي الذي جنّب النصوص الاسترسال والفائضية السرديّة. ولعلّ توظيف العناوين بوصفها النصوص الموازية أو العتبة التي تشير إلى شفرة ودلالة القصّة والابتعاد عن الغموض والافتعال، فلقد بدا جليّاً أن القاص سعى لتقديم ثيمة أو فكرة على شكل رسالة مضمرة تتضمّنها القصص، عبر هذا الاشتغال، لأنَّ تلك المضامين كشفت عن طبيعة الواقع وتأزماته وانفتحت على توظيف الإثارة والنقد والتعرية والكشف. فالسرد الذاتي هو سمة قصّة (كتاب الخراب) وهي قصّة فيها كثير من طاقة الترميز الذي ينفتح في دلالته على التأويل والكشف من خلال إحالات وعلامات النص السردي، ومن أبرزها سيميائية (كتاب الخراب) والبعد الإشاري والرمزي الذي يعبر عنه، وتتحدث القصّة عن أحد رواد المكتبة الذي يدمن القراءة والتردد عليها، وكان يلحظ في كلّ مرة شيخاً يطالع كتاباً، وتحيط به هالة من الصمت والإنزواء، "حين أدخلُ يلفت انتباهي رجل كبير بلحية ثلجيّة طويلة ومثلها شعر رأسه الذي ينسرح على ظهره بطريقة عشوائية، أراه منكبّاً يقرأ من دون أن يهتم بمن يدخل أو يخرج، اجلس قريباً منه بعد أن اقتني كتاباً يناسب وعيي آنذاك، أو بالحقيقة تختاره السيدة التي تستقبلني بوجه مبتسم". (المجموعة: 5)، واللافت أن القاص يوظف تقنية تسريع ايقاع السرد لاختزال البعد الزمني وعبر تقنية التلخيص، وقد تحوّلت المكتبة إلى مكان مهجور: "حين أكملت دراستي وتقدّمي في العمر ابتعدت عن مدينتي الصغيرة سنيناً طويلة، وحين عدت لم أجد المكتبة التي تحوّلت إلى مكان مهجور...". (المجموعة: 6)، ويمكن الاستدلال بشكل جلّي على الطاقة أو الإشارة الرمزية لتحول المكتبة إلى مكان مهجور، وهي صورة استعارية لمدى الخراب وموت المعرفة، ويتعمق البعد الرمزي حين نكتشف أنّ المكتبة قد دمرّت واحترقت بسبب الحرب، "بعد أن احترقت أثناء احدى الحروب، ولم أجد أثر للمرأة التي كانت تبتسم لي صغيراً حين أدخل، لكنّ طيفها كان يظهر أمامي ويختفي، أحد أصدقائي القدامى كان قد حذّرني من الذهاب إلى مكان المكتبة إذ قيل أنّ الجن تسكنه، وصار الناس تبتعد عنه..." (المجموعة: 6)، وبذلك تحوّل الحروب المكان المعرفي إلى مكان موحش يسكنه الجن والخواء حتى أن الدولة تفشل في بيع المكان في المزاد العلني بعد أن أصبح مهجوراً مخيفاً ويثير الرعب، فسيميائية المكتبة تشير إلى الحياة والمعرفة وأجواء العلم وحركية الواقع التي شوهتها الحرب بكل قبحها وبشاعتها واختفت المرأة المبتسمة واختفى الشيخ المكبُّ على القراءة. وتبدو المفارقة الرمزية التي تصل إلى حد الفانتازيا حين يقرر بطل القصّة دخول المكتبة المهجورة وهي خاوية، فيجد المرأة والشيخ وهو يطالع كتاباً، والمباغتة تكمن في أن الكتاب يتحول إلى علامة سيميائية لحدوث هذا التطور الدراماتيكي عبر عنوانه اللافت، "فأدهشني العنوان (كتاب الخراب) رفعت رأسي فوجدت المرأة تقف امامي، وبلهجة جادّة قالت: اقرأ الكتاب الذي جلبته لك، التفتّ إلى الرجل العجوز وقلت – هل كنت تقرأ كلّ تلك السنين بـ(كتاب الخراب)..؟!"، (المجموعة: 7). إنَّ براعة وجمالية ورمزية القصّة لم تتوقف إلى هذا الحد بل حين يكبر بطل القصّة ويتقمص دور الشيخ المكب على الكتاب، ويلحظ صبيّا آخر يتلصلص عليه ويندهش من انهماكه في قراءة (كتاب الخراب).. وبذلك يرتكز السرد على دائرية هذا المعنى الذي يوحي بالتناسل وديمومة واستمرار الخراب وتتحوّل رمزية المكتبة إلى حياة كاملة تحكمها الحروب ويسكنها الخراب. ويمتزج الرمز بالفانتازيا في قصّة (تشوه غير ولادي!) إذ يعبّر عنوانها عن التشوّه الذي يسببه الواقع ومنعطفاته الرديئة، وتتخذ القصّة من الثيمة الفانتازية محوراً دلالياً لها حين يتعرض بطل القصّة إلى مشكلة ترتبط برأسه المشوّه الذي أخذ يكبر مع مرور الزمن حتى تحوّل الرأس إلى عبء غريب: "حين ولدتني أمّي كنت برأس كبيرة بعض الشيء، لكن جسدي اعتدل بعد شهور..." (المجموعة:9). ولعلّ الأمر لم يبق على هذه الشاكلة على الرغم من العناية بالرأس الذي بدأ يكبر بشكل يثير الفزع والاستغراب، ولكي يقترن هذا الحدث مع الهم العام، وتتعمق دلالة المعنى حين يبدأ هذا التشوّه مقترناً بوجود الحصار وموت الحياة: "وحين مرّت البلاد في سني القحط والحصار، أخذتُ أشعر برأسي يكبر قليلاً كلّ يوم، وكنت أتحايل من أجل ألا يعرف الآخرون بذلك إذ صرت ارتدي قبعة عريضة.." (المجموعة: 9). والقصة تجسّد بشاعة التشوّه الكلّي الذي انطوى عليه الحصار التسعيني، وأنه عبر هذا المعنى يعدّ تشويهاً لكلّ الحياة، وبكلّ مفاصلها، وإنه نتوء القبح الذي شوّه طبيعة الحياة السويّة وشوّه طبيعة الإنسان الذي سحقه ذلك الحصار البغيض، والقصّة مؤثرة تربط بين الهم الذاتي والهم العام، مع إدانتها ضمناً لبشاعة وقبح الحصار وبذلك فهي توثق بالإشارة الترميزية والفانتازية تأثيرات تلك الأعوام العجاف من تاريخ العراق. إنَّ قصّة (تمثال الملك الباكي) التي نوّهنا عنها في تحليل سيميائية العنوان للمجموعة تجسّد شكلاً من أشكال أسطرة التسلّط وتصوّر العلاقة المختلة بين الإستبداد وجموع الناس الذين يصدّقون خداع وزيف الخطاب السلطوي وتأسيس منطق الانبهار بالزعيم أو القائد الأوحد الذي يعبّر عن أقصى صورة من صور الهيمنة والدكتاتورية حتّى يتحول الحاكم إلى تمثال يؤمّه ويزوره الناس، وتنسج حوله الحكايات والروايات المؤسطرة، وتتعمّق دلالة السرد حين تروى الأحداث بصيغة ضمير الجمع: "حين اقتربنا من مكان التمثال، كان الناس من حولنا زرافات يتّجهون إليه، واثناء سيرنا كنّا نسمع قصصا مختلفة عن حكاية تمثال الملك الباكي الذي تؤمّه الناس من مختلف الشرائح، فهناك من يسعون إلى التبرّك به، إذ يرونه مقدّساً وانتصب بارادة إلهية..". (المجموعة: 29)، حتى تحول الأمر إلى وقائع غريبة يتناولها الباحثون والرواة، وتكمن جمالية الفكرة في أنّ التمثال قد شغل الناس وأثار خيالهم، فكيف كان صاحب التمثال إبّان تسلّطه؟! هذه القصّة تشتبك مع موضوعة التسلّط وتداعياته، وكيف ينقسم الناس في الاستجابة لروح وأساليب الإستلاب والهيمنة، وكيف يقترن التسلّط بفكرة التقديس وهي فكرة تقوم بصناعتها السلطات المتحكّمة عادة لكي تصادر وعي الناس، وتحوّلهم إلى قطيع يتمركز حول الاتباع وليس المعارضة أو التفكير ويصبح القطيع صناعة للاستبداد. وتجسّد قصّة (معلم التاريخ) فكرة تنطوي على فانتازيا تسعى لتقديم الرؤية المتداخلة والمتعدّدة للتاريخ واختلاف الروايات والوقائع من خلال شخصيّة (معلّم التاريخ) الذي يتحوّل إلى عدّة شخصيّات، وينشطر بوجوده في أذهان الطلاّب حتى يدبّ الجدل بينهم، وهم يتصورون أن معلم التاريخ يتغير في كلّ مرّة، ولم يكن الشخص أو المعلّم الذي عرفوه، وهذا التصوّر وطاقته الفانتازيّة يعكس فكرة أنّ التاريخ نفسه عبارة عن هذه الافتراضات والروايات والتهيؤات المتناقضة، "المفاجأة التي اذهلتني أن زميلاً ثالثاً قال لي بعد أن انفرد بيّ، كما لو أنه يخبرني بسرّ خطير، أن معلم التاريخ الذي يأتينا كل يوم ليس هو المعلم نفسه، وإنما يتغير باستمرار، وإن ادارة المدرسة اتفقت مع أكثر من معلّم لتدريسنا المادة، بعد ما وجدت أن وجوههم تتشابه بعض الشيء، ولهذا لا يتذكر معلم اليوم ما قاله معلّم الأمس، فتداخلت علينا المواد وتهنا بين الأحداث التي يشرحونها لنا.. أخافني حقا ما قاله زميلي هذا، ولم أخبر زميليّ الآخرين...". (المجموعة: 64)، ونلحظ أنّ النص يحقق قصديته من خلال هذه الرؤية التي تشبه الفانتازيا بالترميز، وتنفتح طاقة النص على مساحة أو دلالات تأويلية، تقترن بفكرة أو ثيمة مركزيّة تكشف وتتماهى مع حقيقة أنّ التاريخ عبارة عن تصورات وتهيؤات وروايات متناقضة من خلال فكرة تبديل أو تغيير معلّم التاريخ، وتتصاعد القصّة إلى ذروتها حين تحدث المفارقة الفادحة أو الفانتازيا بحضور أكثر من معلّم إلى الصّف، "استرقت النظر من خلل الشباك أيضاً، وأنا اشعر باضطراب وخوف فوجدته يتقدّم نحو صفّنا إنه معلمنا نفسه، وفيما أخذ المعلّم الذي في الصف يشرح لنا المادّة، كان المعلّم الآخر قد اقترب تسبقه أصوات قرقعة سيوف ودويّ مدافع وأناشيد حماسيّة متداخلة.. ووسط ارتباكي هذا بادرني المعلم الذي في الصف وهو يرمقني بنظرة معبرّة ومحذّرة بعبارة.. إنتبه للدرس!!". (المجموعة: 67- 68). وتجلّت براعة الختام على عمق الفكرة وجمالية الأداء والدلالة، ولم تكن النهاية لغلق الحدث إنما ظلّت مفتوحة وهي ترتكز على اشتغال ذهني. وتمثّل قصّة (أثقال) تنويعاً آخر في تأطير النص السردي بهالة إشاريّة رمزية لتعميق الفكرة وتجسيد تفاصيلها، وتعكس قصّة كفاح الإنسان وأثقاله وأعبائه التي تزداد مع تقدّم وسيرورة الزمن، وكلّما يتقدم به مسار الحياة كلّما يجد نفسه مطوّقاً بأثقال متناسلة وجديدة، حتى يصل إلى ذروة النهاية وتبدأ القصّة باستهلال مباشر للفكرة المركزيّة: "لقد وهن جسدي ولم أعد قادراً على حمل تلك الأثقال.. لكن لا مناص من ذلك، إنها ملتصقة بيّ، وأي محاولة للخلاص أو التخلّص منها غير ممكنة..". (المجوعة: 99)، وقد توحي إلينا القصّة برمزيتها بتناص مع فكرة الصيرورة المتشظيّة أو أسطورة سيزيف والصخرة التي تعبّر عن أثقال مستزادة وتصبح رحلة الحياة تحتاج إلى تبصّر بمفهوم هذا الكفاح، وبدايته ونهايته وهو سؤال وجودي، يحتمل كثيراً من التفسير والتأويل، والقصة في دلالاتها وأسلوبها نجحت في إثارة هذا السؤال لاسيما أنها تصوّر ثنائية البداية والنهاية: "تدفعني ريح عاصفة وأجد نفسي أتدحرج وأتدحرج حتى أقف مضطرباً على شفا وادٍ سحيق.. أحاول أن أتماسك لكن جسدي الواهن لم يسعفني، فافقد السيطرة على نفسي وتسبقني إلى الوادي أحمالي الهائلة لتلقي بيّ في الهوة السحيقة". (المجموعة: 100). ولعلّ هذه النماذج تجسّد طبيعة المجموعة وتنويعاتها وأساليب اشتغالها، وهي تتمركز حول سرديات مؤطرّة بالترميز والفانتازيا ، والاشتباك مع الواقع المأزوم وتقديم صورة تحمل كثيراً من طاقة الإثارة والأسئلة والتأمّل، والقاص عبد الأمير كما عهدناه يحاول عدم تكرار نفسه عبر تقنيات أسلوبية وثيمية وأبعاد دلالية مدهشة |
المشـاهدات 139 تاريخ الإضافـة 15/12/2024 رقم المحتوى 57032 |
((الملك الأسد)) يعود إلى الشاشات في رهان ديزني لعطلة نهاية العام |
((شكسبير الملكية)) تثير الجدل باستخدام الذكاء الاصطناعي في المسرح |
قصتان قصيرتان من المجموعة القصصية زنجار ابيض للسارد شوقي كريم حسن .. |
جائزة مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية تمنح لمبادرة «بالعربي» الاماراتية |
بتنظيم من مجموعة ابو ظبي للثقافة والفنون .. انطلاق الموسم الكوري للفنون بالامارات |