الأبعاد التأويلية في نظرية الترجمة: غادامير نموذجاً دكتور عادل الثامري |
فنارات |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب |
النـص :
يشكل التقاطع بين التأويلية والترجمة مجالاً خصباً للبحث في العلاقة المعقدة بين الفهم والتفسير والنقل بين اللغات والثقافات. وتمثل أعمال هانز جورج غادامير إسهاماً جوهرياً في هذا المجال، حيث قدم رؤية لعملية الترجمة باعتبارها فعلاً تأويلياً يتجاوز مجرد النقل اللغوي البسيط إلى عملية معقدة من الفهم والوساطة الثقافية. يسعى المقال إلى استجلاء الأبعاد التأويلية في نظرية الترجمة عبر تحليل أفكار غادامير الرئيسة وتأثيرها على فهمنا لعملية الترجمة وممارساتها المعاصرة. يقدم غادامير رؤية لعملية الترجمة باعتبارها حوارا بين النص والمترجم، تتجاوز فكرة النقل الحرفي للمعنى، وتؤكد على أهمية الوعي التاريخي والثقافي في فهم وترجمة النصوص، ما يجعل الترجمة عملية إبداعية وتأويلية معقدة. تتحدى هذه النظرية المفاهيم التقليدية للترجمة، وتفتح الباب أمام فهم أكثر عمقاً وشمولية لدور المترجم. كما أنها تسلط الضوء على الطبيعة المتحركة للمعنى وكيفية تشكله عبر التفاعل بين النص والقارئ أو المترجم. في عملية الترجمة، يحدث "اندماج الآفاق"، اذ يلتقي أفق المترجم مع أفق النص الأصلي. هذا اللقاء ليس مجرد تراكب بسيط للآفاق، بل هو عملية تفاعلية معقدة. فأفق المترجم يتحدى ويُتحدى، يتوسع ويتغير في مواجهة أفق النص. وبالمثل، فإن معنى النص يتشكل ويعاد تشكيله عبر هذا التفاعل. تؤدي هذه العملية إلى ما يمكن وصفه بـ "الفهم الجديد". وهذا الفهم ليس مجرد استنساخ لمعنى النص الأصلي، ولا هو إسقاط بسيط لفهم المترجم على النص. بل هو نتاج حوار حقيقي بين المترجم والنص، حوار يؤدي إلى توسيع آفاق كليهما. وهذا يعني أن المترجم لا يقوم فقط بنقل الكلمات من لغة إلى أخرى، بل يقوم بعملية تأويل معقدة. فهو يتفاعل مع النص، ويستكشف معانيه الظاهرة والخفية، ويسعى لفهم سياقه الثقافي والتاريخي. وفي الوقت نفسه، يكون المترجم واعيًا - أو ينبغي أن يكون واعيا - بتأثير أفقه الخاص على فهمه للنص. هذا الوعي بالذات والتفاعل النشط مع النص هو ما يميز الترجمة الجيدة. فبدلاً من محاولة "إلغاء" ذاته أو التظاهر بالحياد المطلق، يدرك المترجم الماهر أن منظوره الخاص هو جزء لا يتجزأ من عملية الترجمة. وبدلاً من اعتبار هذا الامر عائقًا، لابد وان يستخدمه أداة لفهم أعمق وترجمة أكثر ثراءً. في هذا السياق، تصبح مهمة المترجم أكثر تعقيدا وإثارة. فهي ليست مجرد نقل للمعنى، بل هي عملية إبداعية تتضمن الفهم العميق والتأويل الدقيق وإعادة الصياغة الخلاقة. يصبح المترجم هنا جسرا حقيقيا بين الثقافات، يساهم في توسيع آفاق القراء وفتح عوالم جديدة من الفهم. وتجدر الإشارة إلى أن هذا المفهوم لا يعني أن كل تأويل أو ترجمة هي صحيحة. بل على العكس، فإن الوعي بعملية "اندماج الآفاق" يضع مسؤولية أكبر على المترجم للسعي نحو فهم أعمق وأكثر دقة، مع الاعتراف في الوقت نفسه بأن الترجمة المثالية والكاملة هي هدف قد لا يمكن الوصول إليه تماما، ولكنه يظل الغاية التي نسعى دائما نحوها. وأكد غادامير على أهمية الوعي التاريخي في التأويل. فهو يرى بأننا نفهم دائمًا من داخل وضع تاريخي معين، أطلق عليه اسم "الوعي التاريخي الفعال" وهو الوعي المندمج في السيرورة التاريخية. بالنسبة للمترجمين، وهذا يعني وعيا ليس بالسياق التاريخي الذي أُنتج فيه النص الأصلي فحسب، وانما أيضًا بكيفية تأثير وضعهم التاريخي الخاص على تأويلهم. ولهذا البعد التاريخي للفهم آثار كبيرة على ترجمة النصوص القديمة. وبالنسبة للمترجم، لابد وأن يكون على وعي بثلاثة أبعاد تاريخية متداخلة. أولاً، السياق التاريخي للنص الأصلي حيث يجب على المترجم أن يفهم الظروف التاريخية والثقافية والاجتماعية التي أنتج فيها النص الأصلي. وهذا يشمل فهم الأحداث التاريخية المعاصرة للنص، والتيارات الفكرية السائدة في ذلك الوقت، والسياق الأدبي أو العلمي الذي ظهر فيه النص. ثانيًا، التطور التاريخي للنص حيث يجب أن يكون المترجم على دراية بكيفية فهم وتأويل النص عبر الزمن. فالنصوص الكلاسيكية، على سبيل المثال، غالبًا ما تمر بتأويلات وقراءات مختلفة عبر العصور. ان فهم هذا التاريخ التأويلي يساعد المترجم على وضع ترجمته في سياق أوسع. ثالثًا، السياق التاريخي للمترجم نفسه، وهذا ربما يكون الأكثر تحديًا، إذ يتطلب من المترجم وعيًا نقديًا بموقعه التاريخي الخاص: كيف تؤثر الأفكار والقيم المعاصرة على فهمه للنص؟ كيف يمكن لتجاربه الشخصية والثقافية أن تشكل تأويله؟ يحتاج المترجم إلى مجموعة من الاستراتيجيات للتعامل مع تحديات الترجمة، حيث يُعد البحث المكثف ضروريًا لفهم السياق التاريخي والثقافي للنص، وليس فقط معاني الكلمات. ومن المهم دراسة الأعمال المعاصرة للنص الأصلي والتاريخ الاجتماعي والسياسي، كما أن الاطلاع على الترجمات السابقة للنص يوفر رؤى قيمة ويساعد في تجنب الأخطاء. وأخيراً، يعتبر التفكير النقدي الذاتي ضرورياً للمترجم لفحص افتراضاته الشخصية وتأثيرها على فهمه للنص. يُعد مفهوم "الدائرة التأويلية" الذي طرحه غادامير من المفاهيم الأساسية في نظريته التأويلية، وله تطبيقات في مجال الترجمة. هذا المفهوم يشير إلى العملية الدائرية المستمرة للفهم، حيث يتم تأويل الأجزاء في ضوء الكل، والكل في ضوء أجزائه. في سياق الترجمة، تعني الدائرة التأويلية أن المترجم لا يمكنه فهم أو ترجمة أي جزء من النص بمعزل عن بقية أجزائه أو عن السياق الكامل للعمل. كل كلمة وكل جملة تكتسب معناها من علاقتها بالنص ككل، وفي الوقت نفسه، فإن فهمنا للنص ككل يتشكل عبر فهمنا لأجزائه المكونة. هذا المفهوم يتحدى الطريقة الخطية التقليدية في الترجمة، حيث يتم التعامل مع النص كلمة بكلمة أو جملة بجملة. ولا تقتصر الدائرة التأويلية على النص نفسه، بل تمتد لتشمل السياق الثقافي والأدبي الأوسع الذي نشأ فيه النص. وهذا يعني أن على المترجم أن يأخذ في الاعتبار عدة مستويات من السياق: السياق الداخلي للنص نفسه، السياق الأدبي، السياق الثقافي الأوسع، وسياق التلقي. يتطلب عمل المترجم قراءة متأنية ومتكررة للنص الأصلي، مع إجراء بحث معمق عن خلفية المؤلف والسياق التاريخي والثقافي. وخلال عملية الترجمة، يقوم المترجم بمراجعة مستمرة وتعديل ترجماته السابقة وفقاً لتطور فهمه للنص بشكل كامل. وتتجاوز هذه المنهجية الشاملة مجرد النقل اللغوي البسيط، حيث تهدف إلى إنتاج نص في اللغة المستهدفة يحافظ على المعنى الحرفي والبنية الداخلية والعلاقات السياقية والتأثير على القارئ. تعد رؤية غادامير حول تعدد التأويلات والترجمات الصحيحة من الأفكار الثورية في مجال التأويلية والترجمة. فهو يتحدى الفكرة التقليدية القائلة بوجود معنى ثابت ونهائي للنص، وبالتالي توجد ترجمة "صحيحة" واحدة. وبدلاً من ذلك، يرى غادامير أن المعنى هو نتاج عملية تأويلية مستمرة، تتشكل من التفاعل بين النص والقارئ أو المترجم. ووفقًا لهذا المنظور، فإن كل قراءة أو ترجمة هي في الواقع إعادة إنتاج للنص في سياق جديد، مما يؤدي إلى إنتاج معنى جديد. يفتح هذا الفهم للمعنى كعملية دينامية الباب أمام إمكانية وجود ترجمات متعددة وصحيحة للنص نفسه. كل ترجمة تمثل "اندماج آفاق" فريد بين النص والمترجم، وبين الثقافة الأصلية والثقافة المستهدفة. تمثل النظرة التأويلية للترجمة وفقاً لغادامير ومنظرين آخرين تحولاً جذرياً في فهم الترجمة، وتتجاوز مفهوم النقل اللغوي البسيط إلى عملية معقدة تجمع بين الإبداع والتأويل والوساطة الثقافية. وهذا يفرض على المترجم مسؤولية كبيرة تتطلب وعياً عميقاً بسياقه الخاص مع القدرة على الانغماس في سياقات النص الأصلي وثقافة اللغة الهدف. وبذلك يصبح المترجم جسراً حقيقياً بين الثقافات والعصور، يخلق حواراً مستمراً بين النص والقارئ، والماضي والحاضر. |
المشـاهدات 36 تاريخ الإضافـة 19/01/2025 رقم المحتوى 58199 |