الأربعاء 2025/1/22 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 6.95 مئويـة
نيوز بار
جدلية الغياب والحضور في رسائل بريد العائلة
جدلية الغياب والحضور في رسائل بريد العائلة
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

 

رعد شاكر السامرائي

 

نصوص شعرية  تستقي مبانيها من الحياة واشكالياتها ومن  الانسان وهمومه الذاتية والعامة وتعبر عما يختلج في النفس من مشاعر  وهي تعيش الواقع اليومي بتحولاته السياسية والاجتماعية . نصوص هي خلاصة الاشتباك  الجدلي مع الواقع  صاغها الشاعر فراس طه الصكر في مجموعته الشعرية المعنونة  (بريد العائلة ) الصادرة عن دار نينوى / 2018.

 قد يوحي  عنوان المجموعة  ان مضامينها موجهة  حصرا لمن استهدفهم الصكر بخطابه  ونعني (أفراد عائلته : الأب ،الأبناء والحبيبة ) ولكننا سنجد إضافة لهذه  الرسائل  الخاصة  خطابات موجهة لجهات  أخرى  عديدة ( الأصدقاء ،  الشهداء وعوائلهم ، المهمشون والمسحوقون في الوطن ، السلطويون  الفاسدون ، المتسلقون على أكتاف الفقراء ).

وإذا ما اعتمدنا  هذه الرؤية فبإمكاننا  فرز نصوص المجموعة  إلى قسمين : 

  1. نصوص  مؤطرة : تكاد تنحصر مبانيها ومعانيها  في حدود أحاسيس وعواطف  وانفعالات الشاعر في علاقاته مع  أفراد العائلة  والأقارب. حيث  تتمحور موضوعاتها حول تجارب  ذاتية  مقننة الى حد بعيد  بدءاً من العنوان  والإهداء دخولا في المحتوى  وكمثال على ذلك  نصوص  ( بريد العائلة ، شاهدة ، عيون لا تكتفي ، لا قامة لهواء ينسجها الخريف ) . ومع خصوصية هذه النصوص - إن جاز التعبير – إلا أن اختيار الشاعر للمفردات في بناء  الجملة وتشكيل الصورة الشعرية  يترك الباب مواربا للمتلقي ليشركه في مضمار تجربته ورؤيته الشعرية للأحداث والعلاقات التي عايشها  كما سنبين لاحقا .

 

  1.  نصوص مفتوحة عامة : تمتح من واقع الحياة  والشأن العام  وتستلهم الهم الانساني والوطني ، تدين الظلم والقبح وتجار الدم وتنتصر للشهداء  والضحايا  وتتغنى بالحب  و الجمال  . وهي موضوعات  مشاعة  ذات مساحة  مشتركة  بين الشاعر وجمهور المتلقين  ما يوسع من آفاق  تأثيرها  والارتقاء بمديات تفاعلهم  مع مضامينها  .

 

 

جدلية الغياب والحضور

تشكل موضوعة الغياب  ركنا  أساسيا في الفن الشعري  على مر العصور ، فمنذ ملحمة جلجامش التي تتمحور احداثها  حول سعيه المحموم  للبحث عن الخلود بعد ان هزه رحيل  خله أنكيدو الذي غيبه الموت ، ولغاية  يومنا الحاضر، لا تكاد مدونة شعرية تخلو من موضوعة الغياب  بتجلياته المتنوعة . ومن البداهة القول أن تناول وتوظيف (الغياب ) تتنوع وتتباين وفقا لتنوع تجارب الشعراء وتباين مستوياتهم الثقافية والفنية . ولكن تناول الغياب  في الشعر عموما يخرج الشعر من إطار الوهم والحلم، ليشحنه  بالملاحظة والوعي  والمطالبة والاحتجاج.

هذا الغياب شكل الفاعل الأبرز حضورا في ( بريد العائلة )  وقد تجلى اكثر عمقا وحدة  في معظم هذه النصوص /الرسائل  التي دونها الشاعر بريشة الحاضر المغمسة بإحساس الفقد على واجهتي مسلة الغياب  ،  فعلى الواجهة الأولى صوّر الشاعر الخسارات المادية  ( الاب  والاقارب  ،الحبيبة  ، ضحايا الارهاب ،الجنود الشهداء  )  وعلى الثانية  سطّر الخسارات المعنوية  ( الاحلام الموءودة ، سنوات العمر التي أجدبتها الحروب ،  غياب العدالة والأمن والسلام ) .

ولقد استثمر الشاعر جدلية الغياب والحضور في بناء عمارته الشعرية  موظفا هذه الثنائيات  المتضادة في تشكيل  معظم نصوص بريد العائلة  ، مستعرضا العديد من صور هذه الجدلية  

كحضور الأب المؤثر في الذاكرة رغم  وفاته وغيابه عن مشهدية  الحياة   ،  وتفكك عرى المحبة وغياب الود بإشهار الصديق المنافق خنجر خيانته  لتمزيق أواصر الصداقة ، وغياب الوفاء لشهداء الوطن ومعاناة عوائلهم  مقابل تسيد و تنعم المتنفذين المتاجرين بالحروب ، وغيرها من صور الفقد وآثاره المدمرة  والمؤلمة  في النفس ، صاغها الصكر بلغة  أنيقة  خالية من التعقيد  مكتنزة بالإيحاء تلونت مضامينها الذهنية والجمالية بمشاعر الشجن والأسى  ليرسم  لوحات معبرة عن إدانته ورفضه لكل مسميات  ومسببات البؤس والخراب .

  وكمثال على أسلوب تناول ومعالجة الصكر لموضوعة  الغياب والحضور ما جاء في نصه الذي استهل به المجموعة ووسمها به (بريد العائلة ) إذ يخاطب الأب :

" سأروي عنك

عن مساء غامض أضعناه معا..

عن المرايا الخادعة

سنواتك يا أبي

سأمحو كل أيامها

سوى سنة واحدة

سقطتْ في واد عميق

لم يتسع لصراخنا "

استثناء الشاعر لهذه السنة الواحدة من حياة الأب الراحل  جاء لكونها ماثلة بكل ما فيها من حضور قوي في ضميره  فاستعصى عليه محوها من الذاكرة  ، ونحدس  إنها  السنة التي قاربت فيها شمعة الأب نهاية  رحلتها المضيئة  لفضاء العائلة   ، سنة حزينة  تشارك مرارتها الشاعر مع بقية أفراد الأسرة ، وقد برع في وصف صيرورة تلك السنة الحزينة  وسرمديتها في  أعماق الذات باستعارة  مبهرة - الوادي العميق - الذي ضاق بصراخ العائلة التي فجعت بغياب نبراسها وملاذها الآمن.

 وكما نوهنا سلفا فان قراءة النسق الظاهر لهذا النص  ستضعه  في خانة  الشأن الخاص أو الحالة الفردية ، بمعنى انه يتحدث عن أمر يخص علاقة  الشاعر وتفاعله  مع واقعة غياب  والده ،  فيما سيتكشف لمن يلج عمق النص  ويتفحصه  بدقة ان أسلوب عمارة  وتشكيل الشاعر للمبنى  ارتقت بالمعنى من الخاص الى العام  ، فبدءاً عنون النص ب ( بريد العائلة ) وهذا عنوان عام إذ لم يحدد نسبة هذه العائلة  له  ، وإلاّ لدونه بعبارة ( بريد عائلتي )  ليؤطر مضمون  الخطاب بهذه المساحة الضيقة لتأكيد خصوصية الموضوع . وثانيا نلاحظ انه استخدم كلمة ( أبي )  وهي مفردة يصل صداها لآفاق أوسع من  مفردة ( والدي)  فالوالد لغة  هو الأب المُباشر فيما مفردة (أبي ) أعم  وأشمل  وتفتح المجال واسعا للمتلقي لإسقاط مضامين النص على تجربته هو أيضا فكم من قارئ لهذا النص  يشاطر الشاعر ذات التجربة  : فقد الأب .  

ومن عديد نصوص بريد العائلة التي تتجلى فيها جدلية الغياب والحضور نص ( قبلة منسية على خد الغياب ) حيث  لجأ الصكر الى توظيف التورية والكناية بشكل رائع  ومبهر  في بناء صورة شعرية   تجسد سطوة الغياب القاهرة  وقوة قدراته الرهيبة في  تخريب وتدمير  وجرف وإفناء أي دالة شاخصة للحياة مقابل هشاشة الحياة في مواقف معينة ، فرغم ان الحبيبة  التي يخاطبها الشاعر كانت  شاخصة حية  في المشهد  كصورة من صور الحياة  إلا أن حضورها  لم يكن إلا شاهدا صامتا إزاء  الغياب العاصف  الذي كنس كل شيء :

"لم يك غيركِ ماثلا..

لا الحرب

ولا النساء

ولا السماء

التي امطرتْ أسماءنا

في الحدائق

والشوارع

والحقول

ولا المرايا التي عكستْ ذات مّرةٍ

صورة شمسية كنت بها

حينما أشرت الى شجرة بالذهول

فغاب ظلها

وانحنت ثمارها الى الكارثة .. "

 

تطريس الغياب

اضافة لاستثمار الصكر لموضوعة الغياب والحضور بشكلهما  الجلي المحسوس في بناء نصوص بريد العائلة ، فانه لجأ الى اسلوب  (التطريس ) في تناول هذه الثنائية منتشلا  وباعثا الغياب  بصوره  المتنوعة من غياهب الاضمحلال بفعل تقادم الزمن  ، معيدا له فاعليته عبر نفخ ما كاد يخبو من جذواته التي تراكم عليها رماد النسيان ،  مثيرا ما تراخى من مجساته المتغلغلة في شغاف من اختطف الغياب منهم  الأحبة والأمن والأحلام والأمنيات المشروعة والبريئة .

وإذا كان التطريس  عبارة عن  إعادة  الكِتَابَةَ عَلَى المَكتوبِ الممْحُوِّ ، فإن الشاعر لم يلجأ في تطريسه  للغياب الى توضيح ملامحه  الباهتة ، بل التفت الى الآثار المترتبة عن ذلك الغياب لاقطا ومستلهما  من ظلالها على الحضور صورا شعرية فارقة ومشحونة بقوة فعل الغياب لحظة حدوثه مجسرا الهوة الفاصلة بين زمني  (الغياب = الماضي ) و(آثاره = الحاضر)

وأوضح ما يكون تطريس الغياب  نجده في نصي   (أطفالنا يرسمون القنابل) و (مناجاة ابن الشهيد في يوم النصر) . وفي كلا  النصين يقتفي الصكر أثر الغياب في ضحايا الحروب  ، منتجا لوحة شعرية  تستثير المتلقي  بمآل  من خمشتهم  مخالب الغياب  وطحنت ملاذهم أنيابه .

نقرأ في نص (أطفالنا يرسمون القنابل)  :

" أطفالنا لا يحبون كرة القدم

ولا يرسمونها أيضا..

وعندما تطلب منهم المعلمة

ان يرسموا كرة

يرسمون قنبلة!

كلهم يرسمون القنبلة نفسها

القنبلة التي

لم تترك لهم قدما

كي يلعبوا بالكرة "

 

وفي نص (مناجاة ابن الشهيد في يوم النصر) :

" انهض يا أبي

انه يوم النصر

قم من قبرك لنحتفل معا

فقد أ حضرتُ لك ساقين اصطناعيتين

 وذراعا

وخمسة اصابع ليدك  الاخرى .. "

ويستمر .. " يا أبي

أريدك ان تحتفل معي

فقد زينتُ لك

قارعة الطريق التي تتسوّل عليها والدتي كل يوم  !!"

 

تنويع المعاني وإثارة المتلقي بالتكرار والتشبيه

يلجأ الشعراء عادة الى التشبيه في الوصف لبناء الصورة الشعرية   والى التكرار بأنواعه لتأكيد  المعاني وترسيخها في الذهن . وما يميز بعض نصوص بريد العائلة  أنها جمعت الأثنين – التشبيه والتكرار التوكيدي -  خصوصا في النصوص التي تتكون من مجموعة مقاطع .

وإذا اعتمدنا رؤية الشاعرة نازك الملائكة   بشأن  التكرار الواردة في  كتابها  قضايا الشعر العربي المعاصر من أن : " القاعدة الأساسية في التكرار أنّ اللفظ المكرّر ينبغي أن يكون وثيق الارتباط بالمعنى العامّ وإلّا كان لفظية متكلّفة لا سبيل إلى قبولها. كما أنّه لابدّ أن يخضع لكل ما يخضع له النصّ عموماً من قواعد ذوقية وجمالية"  . وتفحصنا أسلوب الصكر في التكرار وفق هذه القاعدة فسنجد أنه أتقن استخدام التكرار والتشبيه في صناعة صور شعرية محكمة  بعيدة عن التكلف  وثيقة الصلة بروح النص ، رغم ان كل مقطع يحمل معنى خاصا لكنه  مرتبط بالمعنى العام للقصـيدة .

أما في مجال  التشبيه  فان ما يلفت النظر - مع وفرته في نصوص بريد العائلة - إسهاب الصكر في استخدام  كاف التشبيه  من بين عديد أدوات التشبيه  . ومع إقرارنا بتفنن الشاعر في تشبيهاته  إلا أننا نعتقد  ان توظيف الاستعارة  بدل التشبيه سيرتقي بالجملة الشعرية  لتغدو  ﺃﻜﺜﺭ إيحاء  ﻭﺃﻜﺜـﻑ  ﻅـﻼﻻ .

ومن أوضح النصوص التي حفلت  بالتكرار والتشبيه  نص (تفيضين خضرة في الحقول ) :

"  (1)

جميلة أنت

كأضغاث ملائكة

بعيدة ،

كإله معزول

(2)

جميلة أنت ،

كموجة راسية

على ساحل يتيم

..... ويستمر بوح الشاعر موظفا تقنية التكرار وتشبيك الجملة  بكاف التشبيه في جميع مقاطع القصيدة:

(6)

جميلة

كأنك تفيضين خضرة في الحقول

وتستنزلين الغيث بابتسامة واحدة

جميلة كأحجية

(7)

جميلة أنت ،

كقارورة من الشعر،

جميلة كالمستحيل..

(8)

جميلة كأغنية ،

بعيدة كقصيدة.."

إن تكرار كلمة – جميلة - الواردة في النص  وتشبيهها بجملة من الأشياء التي تتوافق مع  الذائقة الجمالية  المرهفة  ( أغنية  ،  شعر ..خضرة .. ابتسامة الخ ) أسهم في إغناء دلالاتها وأكسبها قوةً تأثيرية في المتلقي بشكل متواتر متصاعد حيث أتقن الصكر توظيف التكرار في هندسة النص الشعري مغريا المتلقي لمواصلة القراءة  مقطعا  بعد الآخر يشده الشغف لاكتشاف مآل انثيالات  هذا البوح الشعري . ليكتشف ان كل تلك التشبيهات التي تناثرت المفردة على مساحة النص  قد أعاد الشاعر جمعها ليصوغ منها  عقد قلادة  الخاتمة الأنيقة  :

"بينما كنت أحجية

أنا حلّها المستحيل

وبينما كنت قارورة من الشعر والأغنيات

بين كل هذا وذاك

كنتُ أنا دليلك الى الغياب

وشاهدا على كل هذا الجمال .."

___________________________________________

المشـاهدات 24   تاريخ الإضافـة 21/01/2025   رقم المحتوى 58321
أضف تقييـم