النـص :
د. حسين الانصاري ـ السويد
تطور مفهوم المونودراما منذ الممثل الأول في المسرح اليوناني ثيسبس ، مرورًا بمراحل عديدة أثرت فيها التقنيات والسينوغرافيا بشكل كبير في إبراز إبداع هذا الفن المسرحي فقد بدأت المونودراما كمسرح فردي يُقدم فيه الممثل الواحد الحكاية مستخدمًا أدوات بسيطة تعتمد على الأداء الصوتي والجسدي فقط ومع تطور المسرح عبر العصور دخلت التقنيات المسرحية الحديثة والسينوغرافيا (تصميم المشهد والإضاءة والديكوروالعلاقة مع المتلقي) لتعزز من قوة التأثير الدرامي في عروض المونودراما على سبيل المثال، استخدام الإضاءة المركزة والديكور التفاعلي والمؤثرات الصوتية وتجاوز الامكنة المألوفة لخلق مسافات جمالية بين المؤدي والجمهور وهذا أصبح له دور بارز في تقديم العمق النفسي للشخصية المسرحية وإيصال المشاعر بشكل أقوى إلى الجمهور كما ساهمت التقنيات الرقمية، مثل الإسقاطات البصرية والتأثيرات السمعية في إضافة أبعاد جديدة لعروض المونودراما، مما ساعد في خلق بيئات متعددة تعكس الصراعات الداخلية للشخصية دون الحاجة إلى تغيير فعلي في عناصر المشهد بالتالي، يمكن القول إن تطور المونودراما تأثر بشكل كبير بالتقدم التكنولوجي والابتكارات في السينوغرافيا، مما أتاح للممثل الواحد القدرة على تقديم عروض أكثر تعقيدًا وثراءً من حيث الشكل والتنوع والمضمون. وفي هذا الاتجاهشهد مسرح Studiefrämjandet في مدينة مالمو السويدية مؤخرا عرضا جاء تحت عنوان انتظار- لفرقة مسرح النور كتبه الاستاذ احمد الصائغ وأخرجه الدكتور حميد الجمالي وقام بالأداء الفنان باسم الباسم جاءت معالجة النص وفق رؤية غلبت عليها اللغة الشعرية حيث عمقت مساراتها الدرامية قصائد الشاعر عدنان الصائغ الذي سبق وان وظفت أشعاره في المسرح في عدة نصوص لعل أبرزها مسرحية الذي ظل في هذيانه يقظاً التي قام باعدادها احسان التلال واخرجها غانم حميد وقام بدورها الرئيس حكيم جاسم - وكان حينها عرضا دراميا حقق تفاعلا كبيرا مع الجمهور الذي شاهدها عام 1993 كون العرض حينها اقترب من مشاعر وهموم الانسان العراقي وعرض صورا من واقعه المأزوم وذاكرته التي أعطبتها الحروب والأزمات ويأتي عرض انتظار ضمن هذا التوجه اذ يبدأ والشخصية الأساسية التي اقترحها المؤلف ان تكون لكاتب ، شاعر او فنان موسيقي يعزف على البيانو بجملة موسيقية تمنيت ان لا يطول تكرارها لمرات على أسماع الجمهور وتستبدل بمقطوعة جاهزة وحين يبدا العرض يعزفها الممثل قبل ان ينهض متوجها إلى المكان الذي افترضه المخرج من خلال مفردات السينوغرافيا ليلة احتفال بذكرى لقاء الرجل مع حبيبته الغائبة التي استحضرها في ليلة عيد الميلاد ليستبدل العلاقة الخيالية عبر السرد اللغوي والفعل الحركي وصوتها الذي استخدم لربط الأحداث وتصاعدها من مرحلة لأخرى اخرى فقط كانت رمزا واملا وملاذا لرجل أتعبته السنين وحاصرته أزمات وطن تتوالد فيه الفواجع والكوارث والحصارات وحكام التسلط والاستبداد ولم يبق أمامه سوى الهجرة التي لم تكن خيارًا سهلاً، بل كانت قرارًا مؤلمًا محفوفًا بالمخاطر، حيث اضطر الملايين من العراقين إلى ترك وطنهم، وهاجروا محملين بذكرياتهم، أحلامهم، وتاريخهم الذي أصبح مجرد أطياف تلوح في الأفق. ولكن وسط هذا الانتظار القاسي والظلام الدامس، برزت “المرأة الحلم” – تلك الشخصية التي جسدت الأمل والطموح في حياة جديدة، بعيدًا عن الألم والمعاناة. فهي هنا الرمز الذي يمنح القوة للاستمرار، والدافع لتجاوز العقبات، والبديل الذي يعوض الفقدان والحنين لحضن دافىء لأم او أخت او حبيبة والأمل في اعادة بناء الذات الذي لن يموت رغم الغربة والشتات وهو القاسم المشترك بين الماضي والحاضر والمستقبل، وهكذا فعل الكثير من العراقيين الذين اختاروا طريق الخلاص عبر مغامرات محفوفة بالمصاعب والمخاطر الجسيمة حيث واجهوا أمامهم قطاع الطرق وجشع المهربين وهيجان البحر وخفر السواحل وانتظارات التحقيق ومخيمات اللجوء المرأة هنا البديل والملاذ ومساحات البوح حول اسئلتها التي أبانت الحقيقة وقربت المسافات بينها وبين هذا الإنسان الذي وجد لديها جمال المشاعر ومحبة الانتماء وهنا يمضي معها في استعراض حياته منذ فترة الطفولة التي حرمته رعاية الأب الذي مات وهو مازال يافعا وقد كان مشهد موت الأب ايضا فيه دلالة موحية. بقيمة الأبوة ونورها الروحي الذي ارتقى إلى السماء وكذلك الحال لفقد ابنة الجيران الحبيبة التي قتلت ظلما فكان موتها برقا أنار الارض كلها نجح المخرج في خلق معادل بصري لهذه الفكرة مستخدما الكرات المضيئة التي تتصاعد إلى فوق العمودين ،تتطور احداث العرض من خلال حدوث حالة الحرب فيستدعى الرجل للخدمة العسكرية فيكون جنديا يدافع عن الوطن وعليه ان يواجه مصيره كغيره من الجنود وسط معارك فضيعة لا يعرف كيف خرج منها سالما وراح يبحث عن أفق للخلاص بعد ان زادت متاعبه وتراكمت معاناته ليكمل تلك الرحلة مغادرا الوطن تاركا تاريخه وأيامه و كل ذكرياته مهاجرا في غربة موحشة هذه التحولات الزمكانية والحالات الإنسانية المتغيرة التي بدأها الكاتب من خاتمة الأحداث ليسترجع تفاصيلها عبر حالة ( الفلاش باك) فجعلنا نتابع رحلة هذا الرجل الذي جسد حال الواقع والكثيرون غيره اذ وجدنا ذواتنا بين تفاصيل كثيرة في تاريخ حياته وذكريات أيامه وأحلامه حاول المخرج الجمالي تجسيد ذلك من خلال تخفيف وطأة السرد والزخم الشعري ساعيا ان يجعل من الصورة البصرية عاملا مساعدا في صياغة مشهدية لشحن القدرة التعبيرية وإثراء الدلالة كما وظف الأغاني الشعبية التي فاضت بالشجن العراقي وهو ما عمق التأثير النفسي وحرك مشاعر الجمهور الذي يرتبط بها موروثا واحساسا وعاطفة ، ورغم المفردات السينوغرافية المختزلة التي استخدمها المخرج والمتمثلة بشجرة عيد الميلاد والبالونات والإطار المعلق والمنضدة الصغيرة إلا انها اوحت بالجو العام للحدث رغم ضعف امكانات الإنارة التي استخدمت للكشف ونجحت في بعض المشاهد كالحلم والموت وعبور البحر مما أغنت التعبير الدرامي وربما يعود ذلك لمحدودية اجهزة الإضاءة المثبتة لأغراض ليست لعرض مسرحي ، و كان للمؤثرات الصوتية حضورا أغنى الحدث وجسد مرارة الحرب وأزيز القنابل وأصوات القطارات التي قد أعادتنا لايام الرحيل والسفر البعيد حرص الفنان باسم الباسم ان يستوعب فكرة النص وأبعاده وتحولات احداثه مفسرا ذلك من خلال الصوت والحوار تارة والإيماءة والهمس والصمت المعبر تارة اخرى محاولا تجسيد شخصيات متعددة منها شخصية العازف ،الأب ،الأم ،الشاب ، العريف والشاعر رابطا بينها بخيط من الحالات الشعورية المتحولة مكونا وحدات درامية متناغمة أظهرت طاقة تمثيلية ولو كنت اتمنى من الباسم ان يكون اكثر حيوية وتجديدا لتجاوز النمطية في بعض الأفعال الحركية التي تكرر استخدامها كما حصل مع البالونات و إطار اللوحة الذي أجاد المخرج تفجير دلالته بتنوع استخدامي ولد شفرات متجددة حيث جعله نافذة وإطارا لصورة وشاشة عرض او مسرح للدمى الذي كان من بين المشاهد الجميلة والمعبرة في العرض والذي أوصل دلالة كبيرة في مشهد مقتضب كما وظف البالونات في مشاهد عدة منها الاختباء من شظايا ورصاص المعركة وكانت رمزا للفرح بالوانها الزاهية يوم عيد الميلاد ووسادة وحضن وحقيبة وثقلا يجثم على صدر الرجل في مشهد الحلم وهذا يحسب للمخرج الذي اثرى النص بالمشاهد البصرية التي أغنت أفكاره المتنوعة ولا نغفل هنا دور الترجمة الانجليزية التي أضفت نوعا من تقريب الأفكار إلى المشاهد غير العربي وكان اختيار مكانها جيدا في اعلى خلفية المسرح انتظار عمل مسرحي رغم انه يعيد لنا قصة تقليدية لاحد المهاجرين العراقيين لكنها تتسم بشمولية التلقي للتجربة التي اغتنت بافكار شملت معظم الأشخاص الذي عايشوا احداث الحرب والمهجر والتعلق بالأمل كما انها محاولة جادة نحو تفعيل مسرح الجالية وتقديم جوانب من الثقافة العراقية من خلال فن المسرح الذي تبنته فرقة النور بالتعاون مع ستوديو فريمياندة لتقديم هذه التجربة الفنية التي ننتظر ان تستمر لإغناء المشهد المسرحي والتنوع الثقافي في المدينة والمدن الإسكندنافية الأخرى .
|