
![]() |
تمظهرات الجرح قراءة نقدية في نص (جرحٌ بحجم إله) للكاتب محسن الزبيدي |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص :
د. عماد صباح الحيدري
حشدٌ من الأسئلة يتشكل حينما تطالع نص الزبيدي محسن (جرحٌ بحجم إله) لعلها تتصارع فيما بينها لتنتج لنا هذا الانثيال الحر الذي لا تحدّه حدود التجنيس ولا تقيده ضوابط التقاليد والأعراف مع وجود حالة من الاطمئنان لدى الكاتب بأنها سرديات معاصرة إذ يقف سؤال الاحتفاء بالجرح في مقدمة تلك الأسئلة. فهل يحتفي الزبيدي فعلًا بجرح الإنسانية الهائل؟ أم إنها محاولة منه لجمع جراح البشرية تحت خيمة التداعي السردي القائم على أساس التفكر الواعي بما يدور حوله؟. دعنا نتفق أولًا على أننا واقفون إزاء نص الحداثة أو حداثة النص وهذا يعني أننا نقف في منطقة الخطر القرائي الذي لا يمكن استشعاره في قراءة السرديات التقليدية، ذلك الخطر الذي يحفزك على الغوص في عمق النص لاستكناه المغزى الخفي الذي حاول الكاتب تضييعه أو تمييعه بين طيات نصه رغبةً منه بإبعاد جسد الحقيقة عن نهم القارئ وتعطشه، فضلًا عن رغبته المُلحة في كسر المألوف السردي الشائع. يحيلك هذا النص منذ حزمته الأولى إلى ما يشبه التجلي نحو عالم مثالي ولكنه منزاح عن واقعية ذائبة في بوتقة المرارة والألم، فالجرح ينمو سريعًا ويتضخم على الرغم من قدرته الهائلة على الاختفاء إلى الدرجة التي لا يُرى فيها إلا بعد التعمق في الذوات والانصهار في صيرورة الكون، فالسارد هنا تمكن من رسم خريطة كونية مصدرها الذات الإنسانية قادرة على التمظهر كلما نكأتها رياح الواقع المشترك بين بني البشر وتتجسد في أشكال وأحوال مختلفة وكأنها ديكورات لمسرح الحياة تتبدل عند كل مشهد من مشاهدها. نص الزبيدي هذا نصٌ عابرٌ للتجنيس أو قل هو نصٌ سردي ولكنه منفلت عن السياقات المألوفة ومزدحم بالهم المشترك ومخترق للمسكوت عنه وجريء في تخطي حاجز الأنساق الثقافية القارة التي أضمرتها أيديولوجيات موروثة وربما سايكولوجيات معششة في النفس البشرية المنغلقة التي تريد أن تصنع لها دروعّا تقيها من شمس الحداثة. فقد يتمظهر الجرح في هذا النص مرةً على شكل أرض متناقضة السمات تنهار على أثرها منظومة المفاهيم السائدة، ففي الوقت الذي تبرز فيه الأرض مفاتن جسدها لتمنح الإنسان من ثمارها الناضجة فإنها تفتح ذراعيها لاستقبال جميع الجثث من دون تفريق بين مذنب وبريء فتكون المقابر الجماعية مثالًا حيًا ومربكًا للمصير البشري وهذا ما أعلنته الصفات المتناقضة للأرض: (الطيبة، الملعونة، المحتلة، القصيدة...) ص٧٥ - ٧٧ ومرة يتمرد الجرح على المقدس القار في الذاكرة ولا سيما جرح التأليف فيطفو هناك سؤال مؤداه: (ماذا لو قام خروف بتأليف كتاب مقدس؟) ص٦٥ وهذا يعني أن ضخامة الجرح وإيلامه أدت به إلى تجاوز التابوات بهدف إيصال رسالة الإنسان المقموع الذي يصل به الحال إلى القول بأن الذين يمسكون مقاليد الأرض ويتحكمون بمصائر الشعوب لا يختلفون عن الخراف في شيء. وثمة مصالحات يعقدها هذا النص بين جملةٍ من الأشياء والمخلوقات التي لا سبيل إلى استحداث رابط بينها سوى خيط رفيع يسهم في إعادتها إلى الجذور كتلك المصالحة التي عقدها بين الباب والطير في (جرح الباب) ص٨١ مع أن أحدهما ثابت جامد مقيد والآخر كائن حي متحرك وحر، فمع وجود حالات التباين بين الأطراف المتصالحة إلا أن السارد استطاع إقناع متلقيه بضرورة عقد مثل هكذا مصالحات لضرورات افترضها وجعلها بمنزلة الثوابت والمسلمات التي لا تزعزعها رياح التغيير إذا ما هبت لاقتلاعها. ولا نذهب بعيدًا حتى نشعر بطغيان النفس الفلسفي على مفاصل النص فقد يظهر مرةً على شكل عبارات تضفي على النص طابع الحكمة المعاصرة وهي تمتزج بصوفيةٍ محببة تفضح ماوراء المعنى وقد تصبح ضمادّا للجراح إذا ما حدثت حالة الانخراط في صفوفها أو الذوبان بين ثناياها، فتصادفنا مثلًا عبارة (المستقيم هو ما نشعر به) ص٨٢ أي ليس المستقيم هو ما نرسمه على شكل نقاطٍ مسطورة سرعان ما تزول بفعل أي مؤثرٍ طارئ، ولعل هذه هي حقيقة الاستقامة بوصفها شعورًا سايكولوجيًا وليست ممارسات يومية قد تكون عاملًا مساعدًا على تعميق الجرح. ونقرأ عبارة أخرى تقول: (أن تقرأ ، يعني أنك في معسكر القلقين) ص٨٨ وهي عبارة يمكن النظر إليها من زوايا مختلفة؛ لأنها قابلة لتأويلات متعددة، فربما تكون القراءة هي قراءة الوجود وماهيته بقرينة وجود القلق، وربما يكون القلق من المجهول الذي تأخذك إليه القراءة، وربما يكون فعل القراءة ناتجًا عن القلق الوجودي الناجم عن اليأس واللا جدوى، وفي عبارة (من الأمام يعود الجميع للخلف، إنها دورة حياة) ص٩١ نلحظ إحالةً مكتنزة بالمعنى الفلسفي العميق الذي يدعو إلى التفكير الناضج بماهية الحياة وانعدام البقاء فيها حتى للأقوى. إن (جرحٌ بحجم إله) ملحمة إنسانية كبرى أنتجها كاتبٌ يعرف ماهية الحياة على وجه البسيطة ويستشعر حجم الألم الذي يكابده الناس فوقها. * جرحٌ بحجم إله (سرديات معاصرة): محسن الزبيدي، رؤى للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، كركوك - العراق: ٢٠٢٤. |
المشـاهدات 146 تاريخ الإضافـة 23/02/2025 رقم المحتوى 59663 |