الإثنين 2025/3/10 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
ضباب
بغداد 13.95 مئويـة
نيوز بار
"قصة قصيرة" قانون الغاب
"قصة قصيرة" قانون الغاب
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

 

 

للدكتور حسين عبيد الفريجي

 

 استيقظت الأحياء على يوم جديد من أيام الغابة الرتيبة وقد علت أشجارها باسقات تطالع السحاب واشتبكت أعاليها فكأنها السقوف وهالت مداخلها فكأنها سراديب أو كهوف تحركت الأحياء في أماكنها تتثاءب وتتمطى ليدب فيها النشاط والحيوية تتسابق إلى إصلاح عيشها والاهتمام بشؤون حياتها

فلا تسمع ثمة إلا كواسر صارخة ووحوشاً زائرة ودوابا هادرة وهواما صافرة وعصافير صادحة يضرب كل منها على نغمته فيتألف من لغطها المختلف موسيقى الطبيعة المبدعة التي تزري بموهبة الفنان القدير

هكذا دأب الغابة وديدن الأحياء فيها كل يوم لكن ذلك اليوم كان يبدو مختلفا كأن له شأناً آخر يميزه عن سائر الأيام إنه يوم مشهود في تاريخ الغابة فها هي الحيوانات ترفع آذانها لتصيخ السمع إلى أمر خطير أطلقه الأسد من عرينه وخول الثعلب مهمة تبليغه وتنفيذه وهاهو يطوف على الحيوانات في مراحها ومكامنها يبلغهم الأمر بتعجيل الحضور إلى الاجتماع العاجل الذي سيعقده ملك الغابة في عرينه المهيب ومقره الدائم في منتصف الغابة مؤكدا على ضرورة حضور النخبة من أهل الحل والعقد وأهل الرأي والتدبير أقبل النمر يتهادى في مشيته مزمجرا مدلا بقوته وهيبته ثم تلاه الذئب بجسمه الرشيق يمشي بخفة ويقظة وحذر وجاء الدب يختال بجسمه الضخم ذي الفروة الكثيفة وهو يطأ الثرى مترفقا من تيهه واعتداده بقوته وأخيرا حضر الحمار وكان يمشي متلفتا وقد داخله الريب وأحاطت به الشكوك حول تلك الدعوة المفاجئة ترى لماذا يدعونه للحضور مع تلك الوحوش الكاسرة فليس هو من أهل القوة والبطش ولا هو من أهل الرأي والسداد هل ثمة أمر يدبر ضده بليل لا أحد يدري وليس أمامه إلا أن ينتظر ما تتمخض عنه الأحداث

حان موعد الاجتماع بعد ان اكتمل عقد المدعوين ولم يتخلف منهم احد نهض الاسد ملك الغابة والقى نظرة فاحصة على افراد رعيته وبعد صمت يسير تكلم قائلا لقد دعوتكم الى هذا الاجتماع الطارئ للنظر في امرنا ومصيرنا بعد ان حل بنا هذا الداء العياء الطاعون الذي ضرب الغابة على حين غفلة من اهلها وفتك بالكثير من سكانها وحيوانها فلننظر جميعا ونفكر معا في طريقة ندفع بها هذا البلاء العظيم والشر المستطير واستأنف كلامه قائلا لقد بلغنا ان السلف من اجدادنا من اهل الحكمة والبصيرة قد عالجوا هذا الامر قبلنا ثم اسروا بذلك الى الخلف انهم يقولون ان الوباء يقترب اذا كثرت الذنوب وعم الفساد وانتهكت الحرمات لكن المذنبين اذا اعرضوا عن المعاصي واظهروا التوبة والندم سيرحمهم الله ويخفف عنهم وطأة البلاء واني ادعوكم الان ايها الاخوة ان ينهض كل منكم ويقدم اعترافه ويظهر ندمه وتوبته وفي نهاية المطاف لابد ان نقدم واحدا منا ضحية او قربانا لله لعله سبحانه يرفع عنا هذا الداء المشؤوم وحتى نحقق العدل والانصاف ومن منطلق رغبتنا في ان لا يظلم احد من الرعية ولا نأخذ البريء بذنب المسيء فان هذا الشخص القربان الضحية لابد ان يكون اكثرنا ذنبا واثما واشدنا جرأة على ارتكاب المحرمات وتدنيس المقدسات ويروق لي ان ابدأ بنفسي في الاعتراف فالراعي لابد ان يكون قدوة للرعية وخصوصا في مثل هذه الامور الجسام وقبل ان اقدم اعترافي اذكركم بانني آثرت ان ارشح اخاكم الثعلب ليكون قاضيا لنا في هذا الامر الجسيم وما ذاك الا لكونه من اهل الحيلة والدهاء وهذا ما يتطلبه منا الموقف العصيب الذي نمر به اليوم فهل انتم موافقون وارتفعت الاصوات بالموافقة على تعيين الثعلب قاضيا عليهم فمن غيره يحكم بالعدل والانصاف ويقود الجميع الى بر الامان

وهنا نهض الثعلب قائلا لا بد من تقديم الشكر والامتنان إلى مولاي الملك لما شرفني به من موقع كريم ولما أولاني به من ثقة عالية أرجو أن أكون بها جديرا ولا تحسبوا أن اختياره إياي لهذا الأمر قد جاء عبثا بل هو عن حكمة ودراية عرف بها ملك الغابة منذ القدم فهو يريد أن يجمع بين القوة الباطشة التي عرف بها هو وأقرانه أهل الافتراس وبين المكر والدهاء الذي يوجد في بعض أفراد رعيته من أمثال شخصي المتواضع وأرجو أن لا تتهموني بالتملق والمداهنة فإن من لا يعرف قدرته فهو الغبي الجاهل ومن عرف قدرته فصادم بها الأقوياء فهو الطائش المغرور ومن يعاند القادرين فإن مصيره الهلاك ولعمري أن زهو العظيم بعظمته لأمر طبيعي معقول ولكن الأمر المستهجن والخاسر هو أنفة الضعيف من الإقرار بتفوق القوي عليه كأنه يريد أن لا يحس الكبير بكبره لا لشيء إلا أنه يحس بصغره إزاءه وهذا عين الظلم والإفتئات

وهنا ارتفع التصفيق من جانب الأسد وصفقت معه جميع الحيوانات وقال الأسد على أن هذا لا ينبغي أن يثنينا عن واجبنا المقدس وهدفنا الذي اجتمعنا من أجله قال الثعلب تفضل يا مولاي الأسد وقدم اعترافك الصريح أمام الجميع فلعل ذلك يكون فاتحة خير علينا جميعا في دفع هذا البلاء وتكلم الأسد قائلا أضع أمامكم يا إخوتي كل ما عملته وصنعته بصدق وأمانة .. أجل .. الصدق يقتضي أن أقول انني كنت مفترسا عدوانيا أفترس الإنسان والحيوان وأقتل في كل وقت وحين في كل فرصة تسنح لي وكل من ألقاه أمامي يلاقي الويل والهلاك وفي الحق أني لا أدري كم من قتيل تركته مضرجا بدمه في الفلات وكم جريح فارقته يعاني مضض الجراح وكم تركت من النساء النائحات على ضحاياي ولا أعرف عدد الأطفال والأيتام الذين تركتهم يندبون أجل يا إخوتي فعلت كل هذا وأكثر فهل تحسبوني مذنبا أم هل تحسبوني جئت شيئا نكرا تكلم يا قاضينا الثعلب

وتكلم القاضي الثعلب فقال أنا أعلم أنكم تتذمرون من القسوة والاعتداء لأنكم متشبثون بحياتكم وهذا من حقكم ولكنكم لو أنصفتم القاسي المعتدي لعرفتم عذره فأنه هو أيضا يحب أن يحيا كما ينبغي لمثله ولكن لا حياة لمثله إلا بالغلبة والعدوان ولقد أذهب أبعد من ذلك فأقول أن الطبيعة نفسها تحب الظلم وتقلد الظالم آلاته وأسلحته فكأنها تهب الحيوان البطش والشجاعة لغرض واحد هو الاعتداء أن الذي جعله قادرا على الفتك بغيره هو الذي أمره بالفتك به وخوله ذلك حقا لا منازع فيه فما ذنب المعتدي والمفترس ومن هنا من منطق الغاب وشريعة الغاب أحكم ببراءة الأسد من كل ما اقترفته يداه وأقول له صادقا كلا يا مولاي أنت لم تأت شيئا نكرا ولست من أهل المعاصي والذنوب حاشاك ثم حاشاك فطب نفسا وقر عينا يا مولاي فأنت بريء بريء  ..

ثم نهض النمر ليدلي باعترافه الخطير أما أنا فلقد نشرت الخوف والرعب في القلوب حيث ما حللت أو نزلت يحل الموت والخراب يخشاني الكبار والصغار لشدة بأسي وقوة بطشي ولكثرة ما ولغت يداي في الدماء أقول ما أقول حقاً وصدقاً فهل تروني من المذنبين؟ وما يقول قاضينا الثعلب؟ قال القاضي لا أبداً يا سيدي النمر لست مذنباً وأنى تكون كذلك وأنت من أهل القوة والبطش والبأس الشديد ونهض الذئب واستهل اعترافه بقوله أنا الذئب رفيق الليل والظلماء ومرعب الناس في البيداء أنا الذي يخطف من الغنم القاصية لأجعل منها طعاماً لي ولصغاري إذا رأيت أشخاصاً كثاراً آثرت الابتعاد طلباً للسلامة وإذا رأيتهم متفرقين جعلتهم لحماً ممزقاً وأشلاءاً متناثرة هذا اعترافي أضعه أمام عدالتكم فهل تحسبوني مذنباً؟ أم أستحق حكم البراءة؟ فقال القاضي الثعلب على الفور بل أنت تستحق البراءة بأوضح مصاديقها وقد أصبحت براءتك مضرب الأمثال ألا يقولون في المثل براءة الذئب من دم يوسف؟ فإذا كنت بريئاً من دم الأنبياء فأنت بريء من كل ما سفكت من الدماء

ثم أردف الثعلب مخاطباً الدب تفضل أيها الدب الكبير و لنسمع ما تقول .. نهض الدب بجسمه الضخم وفروته الكثيفة وأنشأ يقول إنني دوماً أغير على المزارع آكلاً ما لذ لي وطاب من أثمارها وإذا مررت بقرية فأني لا أتردد في أن أخنق صغارها إنني أقتل وأفترس ولا مناص لي من ذلك .. ذلك شأن الوحوش المفترسة فهل تحسبوني مذنباً؟ رد الثعلب بمكر ودهاء أحسنت أيها الدب فأنت لا تختلف عن إخوتك الكبار وما حالك إلا كحال الأسد والنمر والذئب ولهذا وضعناك في قائمة الأبرياء ولما انتهى القاضي من الحكم ببراءة الحيوانات المفترسة بدأت الأنظار تتجه نحو الحمار فلم يبق أحد غيره ليقدم اعترافه لكنه ظل صامتاً لا يحير جواباً فما عساه يعترف وما عساه يقول هنا باغته الثعلب بقوله ما هذا السكوت أيها الحمار؟ لعله سكوت المذنب الجاني الذي يخشى إذا تكلم أن ينكشف أمره؟ وبدأت الوحوش تحثه على الكلام والاعتراف فقال لهم اسمعوني أيها السادة فإني أقسم أني ما جنيت على أحد ولست أذكر لي أي عمل قبيح

فنهره الأسد بقوله إخرس متى كان الحمار فطناً يتصنع البراءة؟ هنا أدرك الحمار أنه لا بد من الاعتراف وأنهم غير تاركيه حتى يعترف أمامهم بجرم لا يعرفه هو نفسه ولا تبين حقيقته وبعد إلحاح شديد وكر وفر بدا أنه تذكر شيئا فقال متحدثا أيها السادة لقد كنت في يوم من الأيام جائعا وهنا بدأت الوحوش بالهمهمة وكأنهم أوشكوا على اكتشاف السر الكبير الذي سيوصلهم إلى الجاني الحقيقي الذي جلب عليهم الداء والبلاء تكلم وكن صريحا هكذا قال الأسد ثم ماذا حدث؟ نعم يا سيدي قد كنت في ذلك اليوم جائعا وكنت أمشي الهوينا قبل حلول المساء فمررت قرب الدير أشكو ما ألم بي من الجوع والهم

وفجأة حانت مني التفاتة يسيرة فرأيت في ساحة الدير عشبا ذابلا طريحا لا يلتفت إليه أحد فسولت لي نفسي أن أمد يدي وأخذ منه شيئا يسد رمقي وجوعي وهنا زأر الأسد مستنكرا أأكلت منه؟ نعم أكلت .. قد اعترفت فلتكن أنت الضحية وأنت القربان ثم أوعز ملك الغابة إلى قاضيه الثعلب أن ينظر في كتاب الشريعة ليقرر على ضوئها عقوبة الجاني استخرج الثعلب كتابا ضخما وأخذ يقلب صفحاته حتى توقف عند إحدى الصفحات وقرأ النص المقدس من مس مال الوقف في قانوننا فدمه مباح ويعدم فورا

قال الثعلب مخاطباً الأسد تفضل يا مولاي الملك لتنطق بالحكم العادل نهض الأسد ملك الغابة وقال وهو يشير إلى الحمار هذا الذي جلب الوباء هذا أصل البلاء لقد أكل في بطنه الحرام أكل مال الصوامع الموقوف شرعاً وبذلك كاد يستحل دماءنا جميعاً فخذوه واذهبوا به واحرقوه فقد جلب البلاء بانتهاك الحرمات والمقدسات فلا عاش من لا يريد لنا الحياة

المشـاهدات 43   تاريخ الإضافـة 01/03/2025   رقم المحتوى 59976
أضف تقييـم