الإثنين 2025/3/31 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
السماء صافية
بغداد 16.95 مئويـة
نيوز بار
اللي شبكنا يخلصنا..استدعاء المجتمع إلى المسرح كسجن كبير
اللي شبكنا يخلصنا..استدعاء المجتمع إلى المسرح كسجن كبير
مسرح
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

رباب دبس

هل يمكن للمسرح أن يكون علاجًا لأمراضنا؟ سؤال كهذا لا يبدو مستهجنًا في عالم أثقلته الأزمات النفسية والاجتماعية والوجودية، وبات البشر فيه يبحثون عما يبلسم أفئدتهم المجروحة، بعد أن استنفدوا العلاجات التقليدية.الإجابة عن هذا السؤال نجدها لدى زينة دكاش، المتخصصة بالعلاج بالدراما، في عملها المسرحي "اللي شبكنا يخلصنا" الذي قدّمته على مسرح مونو في الأشرفية (بيروت) من 7 إلى 23 شباط/ فبراير، وشاركها في التمثيل يوسف شنكر، وهو سجين سابق قضى 30 عامًا في السجن، ووسام غزال وسينتيا كرم.بين الضحية والجلاد، بين القاضي والمحكوم، بين الحق والباطل، بين المذنب والبريء، مسافات لا نعرف مداها، إلا على خشبة مسرح دكاش، الذي يختصر المسافات البعيدة ويجعلها قريبة، إذ سرعان ما يستدعي السجناء من ذاكرتهم كلامًا عن الماضي والطفولة والخسارات والظلم، والأحلام والمستقبل، حيث لا زالت رغبات لهم عالقة عميقًا في مكامن الروح.البشر كلهم سجناء، منهم وراء القضبان ومنهم من هم خارجه، سجناء الرأي، وسجناء القضايا السياسية، سجناء الفقر، والتهميش والإلغاء. هكذا تستحضر دكاش المجتمع إلى المسرح بما هو سجن كبير، له أحكامه وتقاليده، التي تحاسب وتنمّط وتقصي وتهمش كل من يخرج عنها. هنا ليس المذنب وحده مسؤولًا عما ارتكبه، بل إن المجتمع والقوانين شريكان أيضًا. هذا التخفيف من فظاعة فعل المحكومين المذنبين، يقوم به سجناء سابقون يعتلون خشبة المسرح، ليحكوا عن الظروف التي ساهمت في ارتكاب ما ارتكبوه، ومن أفعال أوصلتهم إلى السجن. فيوسف شنكر المولود من أب فلسطيني وأم لبنانية، عاش يتيمًا مهمشًا بدون هوية، بسبب القوانين التي حرمت والدته من أن تمنحه الجنسية اللبنانية.التصنيف الطبقي الذي يمارسه المجتمع يساهم أيضًا في إقصاء البشر وحجزهم ضمن قوالب لا قدرة لهم على تخطيها، إذ يحرمهم من أن يماثلوا في رغباتهم الآخرين، الذين أطّروا أنفسهم في دائرة محددة لا يجوز لأحد أن يقترب منها، ولا هم يخرجون، مثلما هي المفارقة المستغربة تجاه وسام الذي يعمل ناطور بناية، ويمارس في الوقت ذاته هواية التصوير: "أنت مصوّر؟/ لا أنا ناطور بناية/… يعني بتشتغل مصوّر؟/… لا، هوايتي التصوير/… ناطور ومصوّر؟!!".القوانين المجحفة والأوضاع المتردية سجن آخر يجعل الأماكن كلها في ذات السوء لدى الفقراء والمهمشين، في بلد مثل لبنان يعاني من انهيار اقتصادي وبطالة مرتفعة، ويعاني من تدنّ في مستويات العيش، وحروب متتالية، وسرقة أموال المودعين، وغلاء المعيشة، وانقطاع الكهرباء وانعدام الطبابة، وارتفاع إيجارات المساكن. يحدث ذلك في ظل قوانين جامدة منذ سنين طوال، وظروف تبدو شريكة فيما يرتكبه الناس من أفعال جرمية، ما يجعل السجن أرحم من الخارج، فما يتوافر فيه من ماء وطعام وخدمات، رغم رداءتها، لا يتوافر خارجه.لا تستثني دكاش نفسها من دائرة العلاج بالدراما، هي أيضًا تعاني من القضبان التي نصبها المجتمع لحياتها وسلوكها وزواجها، في محاولة لتأطيرها ضمن ما هو سائد ومقبول، فعملها في السجن، كمعالجة للسجناء، هو موضع استهجان ونفور واستياء من الآخرين، وبينهم والدتها الراحلة التي كانت تحتج على دخولها "الحبوسي".هنا ليس السجناء وحدهم موضع استبعاد وازدراء من المجتمع، بل كل من يتقرب منهم ويعمل معهم، ويساندهم ويزورهم، إن كان من أهلهم أو من أصدقائهم أو حتى متخصصين في علاجهم، كما هي زينة التي أمضت ردحًا طويلًا من الزمن، تجالسهم وتستمع إلى مشاكلهم وتتعرف على أسرارهم، فلا داعٍ، والحال هذه، وفق قوانين المجتمع، أن تحضر معالجة لتهنئة صديقتها بمولودتها الجديدة، خوفًا من أن تنقل إليها الجراثيم والفيروسات التي انتقلت اليها من السجن.تحمل المسرحية في أبعادها دعوة لعالم أكثر إنسانية، دعوة لفعل الخير غير المشروط بمنفعة شخصية، دعوة لإيجاد مساحات تلاقي الآخر، يتخطى فيها البشر اختلافاتهم الدينية والطبقية والفكرية والثقافية، فواضع الزهور على ضريح شخص لا يمت إليه بصلة، يحمل رمزية تجسد فكرة الابتعاد عن الأنانية والعطاء بدون مقابل.في علاجها بالدراما في مسرحيتها "اللي شبكنا يخلصنا" تقارب دكاش بين قضبان السجن وقضبان المجتمع المستلب، بأسلوب فكاهي يتلاقى إلى حد كبير مع الطريقة الفرويدية، التي تعتمد على العلاج بالبوح، الذي يبدو أنه أعطى نتائج مبشرة، قوامها عدد من الأفلام والمسرحيات أنجزتها دكاش من بينها الوثائقي "12 لبناني غاضب" (2009)، وفيلم  "شهرزاد" (2012) عن واقع النساء السجينات والظروف التي أوصلتهن الى السجن، و"السجناء الزرق" (2021)، وثائقي يضيء على الإهمال الذي يعانيه المرضى النفسيون الذين صدرت بحقهم أحكام قضائية، رغم أنهم مرضى نفسيون.يسجل لدكاش عملها المسرحي الفاعل، رغم ما واجهته من صعوبات وعقبات لا حصر لها، ابتداء من دخولها عددًا من السجون في لبنان، قضت فيها زهاء 14 عامًا، تستمع خلالها إلى المساجين وتدرّبهم، وهي طريقة علاجية كان من نتيجتها إقناع عدد منهم بالاشتراك بالتمثيل، وقد ساهم ذلك في تحسين سلوكهم، وتخفيض العقوبات التي كانت صادرة بحقهم.هكذا وجد السجناء أنفسهم مع زينة دكاش واقفين على الخشبة، وسط جمهور ينظر ويستمع إليهم، هم على الخشبة مقبولون وبريئون، وراغبون في أن تكون لهم حياة جديدة، هي خشبة يعلنون عليها توبتهم، ربما، هي انطلاقة لعالم أفضل. هكذا يبدو مسرح دكاش مسرح من لا مكان لهم، وخشبة غفران لذنوب كثيرة، و"صوت من لا صوت لهم"، ودواء لمن لا دواء لهم.ولدكاش عدد من المؤلفات، وهي مديرة المركز اللبناني للعلاج بالدراما كثاريسيس (Catharsis)، نالت عددًا من الجوائز تقديرًا لمساهماتها المتميزة في مجال المبادرات والخدمات الاجتماعية، من بينها جائزة مؤسسة جبران تويني، وجائزة الاتحاد النسائي المسيحي YWCA، كما فاز فيملها "السجناء الزرق" بأربع جوائز، من بينها "جائزة غرامشي الدولية للمسرح في السجون"، إيطاليا، و"جائزة الأداء بالدراما" من الجمعية الأميركية للعلاج بالدراما NADTA، وجائزة "امرأة العام" من صحيفة "النهار"، وغيرها من الجوائز العالمية.

المشـاهدات 63   تاريخ الإضافـة 04/03/2025   رقم المحتوى 60052
أضف تقييـم