الخميس 2025/4/3 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 23.58 مئويـة
نيوز بار
أشرف قاسم ومسرحة الشعر بالصورة
أشرف قاسم ومسرحة الشعر بالصورة
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

ناصر أبو عون

عند قراءة المنتوج الإبداعي للشاعر المصريّ أشرف قاسم حاول أن تعطي اللغة ظهرك، وولِّ قلبك شطر الصور الشعرية، وطُفْ حول كعبة المعنى، واخلعْ نعل الأكاديمية المُفرطة على عتبة الرؤى، واكسرْ أسيجة الشكل الذي يبدو جامدا تحت تأثير تقنية الخداع البصريّ، ولكنه مجرد إطار وهميّ تقتضيه قوانين الخليل الفراهيديّ؛ وهي في الحقيقة ذرّة موسيقى مازالت تنشطرُ منذ نطق آدم بالعربية الأولى.

أشرف قاسم (وطن من خليط الحكايا)، وإبداع شعريّ يتخلّق يوميَا من سِدْرة مباركة تسرح جذورها تحت أخاديد دلتا النيل، وتسافر في الأعالي بحثا عن اليقين الفكريّ ويجدف بقاربه عكس التيار، غايته الكبرى قطف ثمرة الشعر المباركة التي تتوفّر على (الجماليّ) و(اليقين الفكريّ)، وهذه المَهمة شكّلت لديه مكابدة مُزمنة؛ ولكن لا ضيرا في سبيل الوصول إلى نصّ يحمل رسالته إلى العالم.

لكن الملاحظ – وإنْ كان خفيًا أو مكنوزًا تحت الطبقات اللغوية المتراكة على جسد القصيدة- أن أشرف قاسم يشتغل على التصوير البيانيّ ولغة الجسد (Body language) بجانب توفّرها على (الحركة والصوت واللون)، وهذا هو سرُّ حيويتها، وديناميتها التي لا تهدأ ومن ثَمّ تنعكس تلك الحيوية على مُناخ النصّ. فضلا عمّا تحملها من شحنات موجبة من الخصوبة والجرأة والغرابة.

ودائما ما تشتغل هذه الصور الشعرية على رغبة عارمة في إهمال المظاهر الخارجية للإنسان والكائنات وتسعى إلى اختراقها وتصويرها من الداخل في محاولة إلى تعرية الذات الخبيئة في صندوق الجسد. وعلى ما أعتقد أنّ هذه الصورة المبتكرة اخترقت أشرف قاسم الإنسان من الداخل، وجالت في ذاته والتقطت مقاطع من وجدانه الموّار بالصراعات، ثم انتقلت إلى تصوير المشاهد الخارجية وصولا إلى غاية إنسانية كبرى. وهذا ما اكتشفته في قصيدته (وطن من خليط الحكايا) حين يقول: [كأني انفتحت على عالم من صفاء المرايا/ ومن زبد الأمنيات العجافْ/كأن الزمان استدار قليلاً/ ليقرأ حزني/ ويرسمني موجة/ تصطفيها الضفافْ..تمد لي الكفَّ/تمسح ظهر يدي/ تستثير الأسى/ والمنى في الشغافْ/ -كيف لم تلتفت للزمان؟/يمر ويترك بصمته في الحنايا/ ويتركنا أوحدين/ بلا وطن/ في ختام المطافْ/نظرت إلى وجهها/فاحتواني الحنان/وأسكرني الحسن/والسحر عذبني في العيون/الضعافْ/قلت: مم أخاف؟ أنت لي وطن من خليط الحكايا القديمة/من وسوسات التباريح/ من ألق الذكريات/ من الطهر/ من أغنيات العفافْ...]

وقد نجح الشاعر أشرف قاسم في الهروب من هيمنة الشكل في بناء الصورة؛ بل إنه كاد يدخل عالم المسرح الشعري مُعتمدا على تقنية الديالوج كآلية في بناء المشهد الدراميّ في قصيدته (أغنية إلى سيدة الفصول)، وبنظرة فاحصة ومحاولة النبش بين المقاطع يمكننا العثور أيضا على (المنولوج= أحاديث الذات) في السكتات الجبرية، وفي الزمن اللامرئي واللامحسوس من بين السؤال- المثير الفكري المثري للحوار- والإجابة - رِدَّة الفعل – وياليته يستثمر هاتيك الطاقة الكامنة داخله في بناء عمل مسرحي شعري لاحقا. يقول:[ـ أتيت إليكٍ/ ـ جئتَ مع الخريفٍ/ ـ متى وقف الفؤاد عن النزيفٍ؟/ـ أحبكٍ/ـ إن هذا الحب جرح/يعذبني على برد الرصيفٍ/ـ أنا امرأة أسطر أغنياتي/من الحزن المسافر في حروفي/ـ سيمضي الحزن، تأتلق الحكايا/ يطل الزهر من صخر الجروفٍ/ـ أتدرك ما أقولٌ؟ أنا بقايا/ أنا قمر تساقط في الخسوفٍ/ ـ لماذا تغلقين الباب دوماً/ وتختبئين في القلب الضعيفٍ؟/ ـ ستتعب في انقلابات الفصول/ـ سأٌطلٍعٌ ورد قلبكٍ في الخريفٍ...]

ومن نافلة القول، فإنّ الشاعر أشرف قاسم بارع في إنتاج الصور الانفعاليّة الصاخبة والضَّاجّة بعد تخميرها داخل ذاته التي يستبطنها على مدار حركة القصيدة، وهي بمثابة نيران مستعرة تحت رماد اللغة وإن كانت ترتدي ثوب المباشرة إلا أنها تبثُّ منطوقها وتنشر مداليلها دون تمفصلات إيحائية أو تأسيسات جمالية لأن يستهدف بالدرجة الأولى إلى توصيف الحالة وتوصيل الشعور إلى المتلقي بإيجاز وبأقصر السُّبل، دون تكلف في تنميق أو تزويق لانزياحات الصورة وحيثياتها التصويرية الحسية الجزئية، في مكاشفة مكثّفة واستدلال منطقي للأحداث. وتتجلى هذه الصورة الانفعالية في قصيدته (نشيد الجوع والظمأ) التي يقول فيها:[يجيء الليل.. تعود إليّ/ تهزمني الحكايات القديمة/ تستحل دمي/ وهذا الليل ممتد/ كأن الصبح فوق سطوح قريتنا/انطفأْ/ظلال مغارة الذكرى تلوح لي/ تغيب مواسم الإخصاب/ تبكي الأرض / جف الماء/ من يحمي أديم الأرض/ من هذا الظمأْ؟]

بلا شك فإنّ أشرف قاسم يحاول كسر رتابة السرد الشعريّ، ويعتمد على تقنية سرعة (غالق الكاميرا Shutter speed) بل إنّه يستعير هذه الوظيفة في بناء صوره الشعرية في المافة الزمنية ما بين (الوقت الذي يأخذه غالق الكاميرا ليظل مفتوحاً حتى تصل كمية من الضوء إلى حساس الصورة) سعيا منه لبناء معمار قصيدته على دينامية التوصيف المشهدي الرومانسي للأحداث متقمصاً رؤيته النصية العميقة التي تتمخض عنها رؤاه الشعرية وفق مثيرات تصويرية رومانسية ليحصل في النهاية على صورة تسعى للكمال وفي آنٍ واحد هي انعكاس لذات الكائن الجمالي، مثلما إن هذه الذات هي انعكاس للآخر في عملية متعاقبة ومعقدة ومضفورة تتابع فيها الصور الشعرية كمشهد في فيلم سينمائي[ يغني السائرون الآن لحن الجوع/ لحن الحزن/ تحتاط الطيور الآن بالهجرةْ/ ويعبر هؤلاء الطيبون الآن / بوابات دهشتهم/ وينطلقون نحو/ الهم والحسرةْ/ تموج الأرض بالديدان/ تمتص البقية من رحيق الزرع/ والخضرةْ/ معلقة عيون الأبرياء من الصغار/ هناك بالمحراث/ جثته كنافذة مغلقة/عليها ماتت النظرةْ!]

المشـاهدات 707   تاريخ الإضافـة 08/03/2025   رقم المحتوى 60273
أضف تقييـم