
![]() |
تداولية الانزياح الروائي |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص :
تناولت كثير من الدراسات أنواعاً متعددة من الجمل السردية لا سيما الجمل الخبرية، والإنشائية وأفاضت في الحديث عنها، فذهبت هذه المقالة تجنباً لاجترار المكتوب، ورتابة الطرح، إلى الانصراف نحو الحديث عن التحويلات التي تطرأ عليها، فقد تكون الجملة خبرية أحياناً ولا يراد منها الإخبار، وتتحول إلى جملة انشائية طلبية تحدث فعلاً مستقبلياً مثلاً، وغير ذلك من التحولات التي تفرضها عوامل متعددة تقودنا نحو دراسة اللغة دراسة تداولية تقوم على الاشتغال في تحليل الجمل على ما يريده المتكلم لا ما تريده اللغة. ولابد من الالتفات في هذا الموضع إلى مفهوم الفعل الكلامي لأنه الأقرب إلى توضيح الفكرة، ومن النقاد الذين تناولوا هذا المفهوم مسعود صحراوي في كتابه (التداولية عند العلماء العرب دراسة تداولية لظاهرة الأفعال الكلامية في التراث اللساني العربي) إذ يرى "أن كل ملفوظ ينهض على نظام شكلي دلالي إنجازي تأثيري، وفضلاً عن ذلك يعد نشاطاً مادياً نحوياً يتوسل أفعالاً قولية لتحقيق أغراض إنجازية كالطلب والأمر والوعد والوعيد...الخ وغايات تأثيرية تخص ردود فعل المتلقي كالرفض والقبول"، ومن أوائل من اشتغل في هذا النمط من الدراسات اللغوية الفيلسوف الإنكليزي أوستين الذي قدح الشرارة الأولى لهذه النظرية، ويمكن أن يعد مؤسس فكرة الأفعال الكلامية، كما عبر عن ذلك د.عمر بلخير في كتابه (تحليل الخطاب المسرحي في ضوء النظرية التداولية) إذ يرى "أن وظيفة اللغة الأساسية ليست إيصال المعلومات والتعبير عن الأفكار، إنما هي مؤسسة تتكفل بتحويل الأقوال التي تصدر ضمن معطيات سياقية إلى أفعال ذات صيغة اجتماعية". ونجد أن الرواية المعاصرة تميل إلى توظيف هذا المفهوم عبر الانعتاق من القيود التي تشكلها قواعد اللغة وقوانينها الصارمة، فتجنح باللغة السردية إلى عوالم مختلفة وصولاً إلى بناء نص روائي يحفّز ذهن المتلقي، ويكسر التوقعات الرتيبة للكلام المعتاد، ويشحن الجمل والعبارات بطاقات عالية من التعبير والإثارة والدهشة، وتعد الدراسة التداولية للجمل الخبرية والإنشائية إحدى الأساليب التي تمكن المتلقي من فهم النص والكشف عما يضمره في ضوء العناصر السردية وآليات التفاعل فيما بينها. ثمة عوامل قد يكون لها أثر مهم في الاستدلال على التفسير المناسب لهذه الجمل يمكن وضعها في الاعتبار ومنها:
تتجاوز الدراسة التداولية بنيات النص وشكله اللفظي إلى التأكيد على وظائف اللغة والإنجازات التي تمارسها في الرواية، فتتحول الجملة الخبرية إلى إنشائية لأسباب متعددة وتنتقل دلالتها من الوصف والإخبار إلى دلالة طلبية مثلا، ضمن قصدية الراوي والسياق الذي يرد فيه الكلام، وعلى الضد من ذلك قد تتحول الجملة الإنشائية إلى جملة خبرية وتنتقل دلالتها الطلبية إلى خبرية تصف الحالة وتخبر عنها. ومن الروايات التي يمكن رصد هذا المفهموم فيها رواية سواقي القلوب لإنعام كجه جي، إذ يتجلى ذلك في قول الشخصية الرئيسة في الرواية، العراقي المهاجر إلى فرنسا عندما إتصلت به حبيبته القديمة في إحدى الليالي بعد سنين طويلة من الفراق، فيحدث نفسه في حوار داخلي مفعم بمشاعر الحنين ويقول: "ليتك توقظينني ، يا نجوى، من الآن حتى آخر عمري، وتسرقين نومي غير مأسوف عليه. هل تصدقين أن صوتك مازال يفعل بي العجائب بعد كل هذه السنين؟" (سواقي القلوب: 130)، يبرز تحول الراوي (العراقي) بالجملة الإنشائية إلى خبرية في قوله (ليتك توقظينني ...)، نجد أن دلالة الجملة الإنشائية الدالة على طلب التمني، القائمة على الإشتغال بوظيفة إنجازية تحث على الإتصال في أي وقت، تتحول إلى جملة خبرية تخبر بحال الشخصية، وتصف مشاعرها المكبوتة تجاه نجوى، وليتمكن الراوي من إثبات القصدية يلجأ إلى تكرار توظيف الجملة الإنشائية الطلبية ولكن بصيغة أخرى هي الاستفهام المجازي الذي يخرج إلى غرض النفي الإنكاري الواصف لحالته المتأصلة في روحه منذ سنين طويلة، ويبين أثر صوتها عليه وما يعتريه من مشاعر الشوق والحنين لحبه الأول. فقد تحولت الجملة الإنشائية ذات الوظيفة التأثيرية من الإشتغال بأسلوب الطلب عبر الاستفهام إلى غاية إخبارية تنقل القارئ من عالم وجودي إلى عالم اللاوجود والبحث عن غاية أسمى تبلورت في أعماق الشخصية وحاولت إبرازها عبر هذا التكثيف الدلالي الناتج من تحويلات الجمل والتلاعب باللغة ومفرداتها ممّا تريده اللغة إلى ما يريده المتكلم ويسعى إلى الإفصاح عنه. وفي نص آخر من الرواية نفسها يطالعنا التحويل من الجملة الخبرية إلى الجملة الإنشائية في قول العراقي وهو يتحدث عن سارة إبنة حبيبته التي جاءت إلى فرنسا لتلقي العلاج فيقول: "اختنق صوتها فجأة وغلبها نشيج جعلها تهتز بقوة، تنفيسا عن احتصار شديد لا بد أنها كانت تكابده ولا تعرف كيف تتخلص منه. ملأني بكاؤها غيضا على اولئك الذين استغلوا وضعها وأرادوا العبث بهشاشتها. الجرذان التي تختبئ وراء الحقائب البلوماسية والمناصب المحصنة" (سواقي القلوب: 136-137)، يبرز التحول بالجملة الخبرية (اختنق صوتها) والجمل الفعلية التي توالت بعدها تصف حالة (سارة) وتبين الانهيار النفسي الذي غلبها وهي تعترف له بالضغوط التي تعرضت لها بسبب رفضها التجسس عليه لصالحهم، فلم تكن هذه الجمل إخبارية تصف حالتها فحسب بل تعدت قصدية الراوي إلى دلالة إنشائية تحيل على وظيفة تأثيرية للجملة توحي بمشاعر الحزن والأسى لما تعرضت له، وتستفز مشاعر السخط والمقت لهؤلاء المستغلين لضعف الناس وقلة حيلتهم في ظروف معينة، فقد اتصف هذا النسق التعالقي للجمل المتتابعة بالدينامية والحركة التي مكنتها من رسم صورة وصفية فاعلة لا تقف عند حدود الوصف بل تتعدى ذلك إلى التأثير في المتلقي، وشحنه بطاقة شعورية كفيلة بإخراجه من التلقي السلبي والإدراك الدلالي للجملة الخبرية، إلى التلقي الإيجابي والتفاعل مع النص عبر الإدراك الشعوري وخلق وظيفة تأثيرية للكلام وتجاوز النطاق الحرفي للمفردات اللغوية، وما كان لهذا الأثر أن يطفو على سطح النص ويتبادر إلى ذهن المتلقي لولا تضافر عوامل أسهمت في ذلك وهي قصدية الراوي، ورغبته في إسباغ المشاعر المتأججة في روحه إزاء ذلك الموقف، فضلا عن الظروف، والسياق الذي وردت فيه هذه الرسالة التواصلية، وقدرتها على تحفيز المتلقي لفك شفراتها، والتماهي مع إسقاطاتها النفسية، فمثلت هذه التحويلات في دلالات الجمل تغييراً مهماً في بناء النص والنهوض بالرواية، ومنحها أبعادا جديدة تكون السطوة فيها للمدلول على حساب الدال، والخروج من قوقعة اللفظ إلى أفق المعنى الذي يعانق المدى في إمتداده، فتسهم في بناء أنماط جديدة من الجمل تزيد من خلالها دينامية النص، وتشظي المعاني التي يرصدها المتلقي وما تفرزه من مفارقات سردية ودلالية تدخل تنوعاً في صنوف الروايات، وصياغاتها البنائية. |
المشـاهدات 40 تاريخ الإضافـة 08/03/2025 رقم المحتوى 60276 |