الأحد 2025/3/9 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
غيوم متفرقة
بغداد 17.95 مئويـة
نيوز بار
قصة قصيرة شيء من مثلث برمودا
قصة قصيرة شيء من مثلث برمودا
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

حيدر الحجاج

في زاوية المقهى المظلمة، حيث كانت الأنوار تتذبذب كما لو أنها تتشاجر مع الزمن نفسه، جلس الكاتب وصديقه المخرج على الطاولة نفسها. الضوء كان خافتًا، يشبه الشظايا المبعثرة في الزمن. الكاميرا المكسورة بين يدي الكاتب كانت تُحتسب شيئًا لا ينتمي إلى هذا العالم، قطعة من الماضي الغائب، جزء من شيء لا يُرى.

الكاتب، الذي بدا كما لو أنه يعيش في عالم مختلف، نظر إلى الكاميرا المكسورة ثم رفع رأسه إلى المخرج وقال، ببطء، كما لو أنه يلفظ كلمات ثقيلة: 

"هذا هو فيلمي."

المخرج، الذي كان يراقب الكاميرا بشكل مشبوه، نظر إلى الكاتب بعينين تشيران إلى تفكير عميق، ثم انفجر ضاحكًا، ضحكة قصيرة لكنها كانت متوترة، مثل انقطاع مفاجئ في الموسيقى. 

"كاميرا معطلة؟ ما الذي ستفعله بها؟ هل هذه مزحة؟"

ابتسم الكاتب، لكن ابتسامته كانت شبحًا، تتحرك في الفراغ بين الكلمات. 

"الفيلم ليس في الكاميرا." قالها وكأنما لا يتحدث عن الكاميرا نفسها، بل عن شيء أعمق بكثير. 

المخرج، الذي كان محاصرًا بين رغبته في الاستفهام وبين شعوره بالضياع، تابع: 

"الهواء؟ الفيلم هو الهواء؟ كيف؟"

توقف الكاتب، ولم يكن في عينيه سوى ضوء باهت يعكس شيئًا بعيدًا. 

"ما لا يُلتقط هو ما يبقى." همس بها كما لو أنه يفتح بابًا إلى مكان مظلم. 

لكن المقهى بدأ يتغير. لم يكن الضوء كما هو. الأصوات كانت تتداخل في مكان بعيد. كان الصوت الذي ينبعث من التراكيب الميكانيكية حولهم يزداد ضبابًا، وكأن العالم نفسه بدأ يذوب في نفسه. الظلال على الجدران أصبحت أطول، بينما بدأت أقدام المخرج تشعر وكأنها تغرق في الأرض. والهواء أصبح ثقيلاً، يضغط على الصدر. 

"الهواء هو كل شيء." قال الكاتب، وكأنه يقرأ جزءًا من كتاب مفقود. "لا يهم ما نراه، الأهم هو ما لا نراه." 

المخرج شعر بشيء غريب، تردد صوت معدني قادم من بعيد، وكأن الزمن نفسه يتساقط في أرجاء المقهى. همس بصوت مختنق: 

"إذا لم تكن الصورة، فما هو الفيلم؟"

ابتسم الكاتب مجددًا، ولكن هذه المرة كان ابتسامته تقترب أكثر إلى وحشية. 

"الفيلم ليس عن ما تراه. إنه في ما بين الصور." همس بهذه الكلمات وكأنها سر تم اكتشافه بالصدفة. "هو ما يوجد في الفراغ بين الكلمات، في تلك اللحظات التي لا يدركها أحد." 

المقهى أصبح أكثر اضطرابًا. الجدران تحركت ببطء، تتقلص وتتوسع كما لو أن المكان نفسه يعيد تشكيله. الأصوات كانت تتحول، كالأنين البعيد الذي يتسلل من ممرات مظلمة. الضوء أصبح غير مستقر، وكأن كل لمعة منه تكشف شيئًا مختلفًا.

لكن المخرج بدأ يشعر بألم حاد في رأسه، وكأن الأفكار تتفكك من داخله. كل كلمة قالها الكاتب كانت تلامس شيئًا غريبًا في داخله، كما لو أن الواقع نفسه كان ينزلق بعيدًا. 

"الوقت... هو الفيلم؟" همس المخرج، ولكن السؤال بدا وكأنه يتناثر في الهواء دون أن يجد له جوابًا. 

"نحن نعيش في النسخ التي تتكرر دون أن نعلم." قال الكاتب، عينيه تتسعان فجأة كما لو أنه اكتشف فجوة كبيرة في الوجود نفسه. "كل لحظة تموت، لكننا نعيش في تكرارها." 

المخرج كان يراوده شعور غريب، وكأن كل شيء حوله كان يتحول إلى وهم. الجدران كانت تبتعد وتقترب، والظلال كانت تراقبه بصمت، وكأنما تحاول أن تقول له شيئًا لم يستطع فهمه. 

"لكنك تقول أن الفيلم في الفراغ، في الغياب..." قال المخرج، صوته أصبح ضعيفًا كما لو أن كل كلمة تأخذ منه جزءًا من وجوده. 

"هل هذه هي الحقيقة؟ هل نعيش في الكابوس الذي لا نعيشه؟" 

ابتسم الكاتب، وابتسامته كانت مثل الجروح التي تفتح نفسها ببطء. 

"نعم. الفيلم هو الكابوس الذي لا نراه، الذاكرة التي تموت قبل أن تُلتقط." 

ثم، في لحظة لا يمكن تحديدها، اختفى الصوت. الضوء كان يتغير، والأشياء التي كانت حولهم تحولت إلى أشكال متلاشية، غائبة في فضاء غير مرئي. المخرج بدأ يشعر بثقل في قلبه، وكأن كل ما حوله بدأ يتحلل. والكاتب، الذي كان لا يزال جالسًا، كان يراقب هذا التحول، لكن في عينيه كانت مسافة غير مرئية. 

"أجمل الأفلام تُحس." همس الكاتب، وابتسامته تلاشت مع الهواء الذي أصبح ثقيلًا حولهم. 

لكن المخرج لم يستطع أن يفهم. كان يراه هناك، لكن كأنه ليس هناك، كما لو أنه لا يستطيع أن يلمس الحقيقة التي كانت معلقة في الجو.

ثم سقطت الكاميرا من يد المخرج، تحطمت على الطاولة المظلمة. الصوت نفسه بدأ يتسرب من بين الزجاج المكسور. فجأة، المقهى أصبح صامتًا، ولكنه كان صمتًا مليئًا بكل شيء. 

 

 

المشـاهدات 36   تاريخ الإضافـة 08/03/2025   رقم المحتوى 60277
أضف تقييـم