الإثنين 2025/3/10 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
ضباب
بغداد 17.95 مئويـة
نيوز بار
الكتابة هويتنا الأولى والتحول البشري الأعظم ..من هنا.. كتب الحرف الأول
الكتابة هويتنا الأولى والتحول البشري الأعظم ..من هنا.. كتب الحرف الأول
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب د. منتصر الحسناوي
النـص :

 

 

 

من أرض سومر، من قلب الوركاء تحديداً ، خرج أول نقش خطّه الإنسان ليعلن عن بدايةِ عصر جديد.لم يكن مجرد رسم على الطين بل كان ولادة فكرة غَّير مجرى التاريخ إلى الأبد، إنه التحول البشري الأعظم وأساس الفكر والهوية وهي اللحظة التي انفصل فيها الإنسان عن العصور الغامضة ليبدأ تدوين قصته بنفسه. 

 

"ما لم يُكتب، لم يوجد."  صموئيل نوح كريمر 

 

حين نبحث عن "هويتنا الأولى" نجدها هناك محفورة في الطين، في الخطوط الأولى التي رسمت شكل الحضارة التي جعلت من الإنسان كائناً يملك ذاكرة ممتدة تتجاوز حدود حياته. الكتابة لم تكن مجرد أداة للتوثيق بل كانت الخطوة الأولى نحو الوعي الذاتي نحو إدراك الإنسان أنه يمكنه أن يترك أثراً يبقى، أن يسجّل أفكاره، أن يصوغ قوانينه، أن يعبّر عن روحه، وأن يضع بصمته الخاصة في سجل الزمن.  كل شيء بدأ قبل أكثر من خمسة آلاف عام عندما قرر الإنسان السومري أن يمنح صوته الخلود عبر الحروف، لم تكن تلك الرموز مجرد وسيلة لحساب الحبوب أو تسجيل الضرائب بل كانت لحظة ميلاد الذاكرة البشرية. منذ تلك اللحظة، لم يعد الإنسان مقيداً في حدود ذاكرته الفانية، بل صار بإمكانه أن يدوّن تجاربه، أن يوثّق لحظاته وانتصاراته وأحلامه ومخاوفه وحتى وصاياه للأجيال القادمة، و أعادت تشكيل تفكيره بالكامل. مارشال ماكلوهان، عالم الاتصال الشهير، كان يرى أن الكتابة لم تكن مجرد ابتكار بل "ثورة معرفية" أعطت للإنسان القدرة على التفكير بشكل أكثر تجريداً ومنهجية ومكّنته من رؤية الزمن بطريقة جديدة، لكن السؤال الأهم: لو لم يبتكر الإنسان الكتابة هل كان بإمكان الفلسفات الكبرى أن تتشكل؟ هل كنا سنعرف قصص جلجامش أو الإلياذة؟ هل كان بإمكان الحضارات أن تصوغ هويتها الخاصة؟ الفيلسوف الفرنسي "جاك دريدا" كان يؤكد أن الكتابة ليست مجرد أداة لحفظ اللغة بقدر ما تمنح الفكر وجوده الحقيقي. فهي التي تحول الفكرة إلى حقيقة، والكلمة إلى هوية.  ولأن الكتابة تصنع الهويات، فقد كانت أداة السلطة الأولى، إذ لم يكن من المستغرب أن يكون أول من استخدمها هم الحكّام والملوك إذ سرعان ما تحولت الكتابة إلى وسيلة لإرساء القوانين وترسيخ الحكم، والتر أونج، عالم الأنثروبولوجيا، يرى أن "المجتمعات الشفوية تنسى، لكن المجتمعات المكتوبة يبقى ذكرها إلى الأبد".  كانت الكتابة الوسيلة التي حفظت العقائد والطقوس، ومنحت الأديان قدرة على الانتشار والتأثير العابر للأزمان.  وربما كان التأثير الأعمق للكتابة هو في مجال العلم، فمنذ أن بدأ الإنسان في تسجيل ملاحظاته أصبح بوسعه بناء معرفة تراكمية لم يعد كل جيل مضطراً لاكتشاف كل شيء من جديد، بل صار بإمكانه الاستفادة مما تركه السابقون. عالم الفلك الشهير كارل ساجان كان يؤكد أن الكتابة هي ما جعلت البشر قادرين على التحكم في مصيرهم بدلاً من أن يكونوا مجرد ضحايا للظروف. بدون الكتابة، لما عرفنا قوانين نيوتن، ولا نظريات أينشتاين، ولا حتى الوصفات الطبية التي أنقذت ملايين الأرواح.  لم تكن هذه مجرد رفاهية فكرية، بل كانت لحظة فاصلة في تطور الإنسان. قبل الكتابة، كان كل شيء يعتمد على الذاكرة، على القصص الشفوية التي تتغير وتتحول مع الزمن. لكن مع ظهور الكتابة، ظهر التوثيق، وُلدت المدارس، ازدهرت التجارة، تطورت الإدارة، وأصبحت العقود والسجلات المكتوبة أساس الاقتصاد. "الكتابة هي التي صنعت الحضارة ذاتها" من خلالها نشأت الدول وتأسست البيروقراطيات، وتطورت الأسواق وأصبح الإنسان قادراً على التخطيط لمستقبل بعيد لم يكن ممكناً في العصور الشفوية.  وإذا كانت الكتابة هي التي صنعت الحضارات، فإنها أيضاً صنعتنا شكّلت "هويتنا الأولى" جعلتنا نعي أنفسنا، وجعلت لنا صوتاً يمكنه أن يبقى حتى بعد أن نرحل. لا عجب إذن أن يقول المؤرخ الإنجليزي "أرنولد توينبي" : "الحضارات قد تنهار، لكن الكتابة تبقى لتروي قصتها".   فكل ما نعرفه اليوم عن الماضي هو بفضل تلك الأحرف الأولى التي سُطّرت على الطين، ثم الحجر، ثم الورق، وصولاً إلى الشاشات الرقمية. إنها ليست مجرد رموز بل ذاكرة البشرية وإرثها الذي لن يمحوه الزمن.  حين نبحث عن جوهر وجودنا، عن أول أثر تركناه على هذا العالم، سنجده هناك، في الحرف الأول التي خطّه إنسان سومري على لوح طيني في الوركاء، حيث بدأ كل شيء، حيث وُلدت هويتنا الأولى.

 

المشـاهدات 49   تاريخ الإضافـة 10/03/2025   رقم المحتوى 60285
أضف تقييـم