السبت 2025/3/15 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
السماء صافية
بغداد 19.95 مئويـة
نيوز بار
من شيء ميرزا إلى أشياء عالية ” قراءة في ” عرس فينيكس ” لـ عالية ميرزا
من شيء ميرزا إلى أشياء عالية ” قراءة في ” عرس فينيكس ” لـ عالية ميرزا
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

الجزء الاول

إبراهيم محمود *

    يمارس الشّعر حضوره الفعلي ضد الذاكرة، فالذاكرة صنمية، والشعر ناسف الصنمية، رغم أن الذاكرة هذه مسكنها، لكن بمثابة ”حديقة الحيوان” التي تزعم أنها تحمي حيوانها من الانقراض، سوى أن جغرافيتها المكانية، ومساحتها المسوَّرة، وكيفية التعامل معها، تعريض تدريجي لها للانقراض، وهو إجراء غبي يترجم مدى أهلية الإنسان للتدجين ونسيان أنه أصلاً كائن بري في بنيته، إلى تدجين ما حوله.

كما لو أنه استثناء إنساني ضد الإنسان، أكثر من تحرّكه على هامش الذاكرة، إذا كانت هذه متناً سلطوياً: أعرافاً وتقاليد وطقوس تذكّر بما كان، وتسدل ستارة سوداء أكثر من وصفها بالحدادية على ما سيكون.

من هنا يأتي حديثي، أو لا يأتي، لأنه حاضر، به حنين إلى كلام يبحث عن اسم يرفع إليه رغبته الخاصة، ولو باختصار، عمّا يجعل الشعر شهادتنا الأوحد في الوجود، وتحريراً لهذا المقيَّد الموجود داخلنا.

عالية في مواجهة ميرزا

لا أؤلّب الشاعرة الكردية العراقية ” عالية ميرزا ” على والدها أو نسَبها الذكري، وبعيداً عن الاصطفافية، ودلالة النسب في الاحتواء والهيمنة، وفق العنوان آنف الذكر، إنما أكتب طي كتابتها الشعرية ما تكون عالية دون ربطها بـ” ميرزا ” شهادة ولادة تعيش مخاضها على مدار الوقت ومكانه، على الأقل من لحظة استشعارها عن ” بُعْد داخلي ” بوجود أكثر من شيء يمنحها طاقة وجود لم ولا يمنحها كامل وجودها مع الآخرين..

عالية ميزرا الشاعرة الكردية العراقية ” مواليد ” كركوك 1957 ” حائزة شهادة بكالوريوس في عالم الاجتماع ” أربيل ” ومقيمة في السويد منذ نهاية عام ” 1985 ” كما لو أن هجرتها السلمونية دون رجعة بذات الروح مهيضة الجناح، رحلة في عالم ” منطق الطير ” وعلى طريقتها، وذلك في كتابها ( عرس فينيكس : نص مفتوح .منشورات هنّ، القاهرة، ط1، 2023 ” في ” 154 ص ، من القطع المتوسط ” )، كتابها عذابها، وركابها ، كتاب ارتكاب الجنوح في قلب اللغة المعتادة على نفسها كما لو أنها تريد بها وصلاً من نوع مغاير لحقيقتها، قبل أي حديث عن أسطورة ” الضلع الأعوج ” العصا الآدمية المشرعنة التي تكبح جماح كل شعور بالاختلاف وسيادية الروح الخاصة لدى المرأة، عالية تطرح أشياءها، لكأنها ” تبلبل ” وعي قارئها الطافح ربما هو ذكري معتد بنفسه، لتريه ما يخفى عليه، أو ما لا يريد اطلاعه عليه، وهو أنها جسد كامل، له حضارته الكوكبية، لغته المطموسة، قواعد صرفه النحوية، إنشائياته الخيالية، فولكلورياته الجمالية الممتدة إلى المستقبل، استنهاضاته من داخل البئر التي رميت فيها منذ زمان سحيق بأكثر من تهمة” أين منها بئر يوسف “؟

كتاب في إثر كتاب، كما لو أن التوقف عن قول الشعر، أو الكتابة إعلان رحيل أبدي في صمت مطبق!

ليس من شعر، وهل شعر غير الشعر الذي شريك له في الاحتفاظ بأبدية كريستاليته” كما هو المفصَح عنه فراهيدياً، ولكن ثمة شعراً يتجاوز عمامته الضاربة بهيبتها المعتبَرة. ليس من نثر، كما هو الجاري تأطيره بلغة أهلها من الذكوريين. ثمة ما ينطق بما ليس فيه، لأن فيه ما ينتظر من يفيه حقه في الكلام بامتياز.

إذا كان الشيء في غفل الاسم إحالة إلى براءة الوجود، إلى ما قبل تحميله اسماً في سعادة وجوده، فهو في حكم اللغة مدفوع إلى داخل لا خروج منه، وإذا كان يقال هكذا ” شيء ” فهو تنويع لما يحصى من أسمائه، وتوقعات الأوصاف والهيئات، فهو جرّاء ذلك المنتظر لمن يحيط به علماً ينتسب إليه، ولا يسوّره، لأنه أكبر من اسمه، ومن يعيش حمّى التجاوز يكون الصديق الصدوق له. ولا بد أن المرأة لحظة القيام بأي جردة حسابية تاريخية، سوف يكون لها قصب السبق، كونها تفيض بالأشياء ولكل شيء ما يعززه ثراء.

ربما من هذا المنطق تحمل كتابها الخاص بكامل جسدها، جسدها الذي أودعته إياه، وسفحتْه لغة بمقياس ذائقتها المضناة بشوق المرتقب، وتطرق باب كل محجّر بـ”صُورها” على اللغة في جامدها ومشتقها.

لا يخفى على الصديق الشاعر والناقد إبراهيم اليوسف أن يشير إلى هذه” الشطحات” الأنثوية التي تقيم وصالاً من نوع خاص بين الأرض والسماء، وتهز به يقينيات الذكر الكوكبية واعتدادها الفحولي بالمختلف المزعوم عنه، وهو يرى أنه من الضروري التعامل مع نصها (باعتباره اختراقاً للأجناس الإبداعية في عالم الكتابة… ص 8 ) وهو يأتي على ذكرها.

بدءاً من العنوان ومتتاليات العنوان ثمة الارتحال المعاكس، فشمس الرجل التي تشرق غير شمسها، وهي إذ تستنجد بكائنها الخرافي العتيد” فينيكس” الطائر الذي تعرفه السماء والأرض، وهو يحترق بإرادته ليتجدد قوة وعزيمة ونفاذ أثر. طابعاً طائرها هذا واقعي، يتنفس بين جنبيها، يتخذ هيئتها، صوتها، مكبوت روحها، تاريخ جسدها الدامي، نارها التي تحرقها قهراً بإرادة القيمين من سدنة الذكورة، ليكون نفياً لفينيكس الآخر، المجهول أو المختلق باسم ذكر ما، إنه قيامته على أصله الذي لا يُعتد به. طائرها يتمثل حيوات تترى. وفي العرس ما يفضي بنا إلى زمان ومكان مختلفين، حيث الجسد، جسدها الشعري يعلِمنا بذلك، مع دوام الانتعاش بحياة أصفى وأوفى لاسمها. العرس عرش، أيجوز التصرف بالمعاني بتغييرات سريعة؟ إنها بدعة الاستعارة !

ربما كانت الصورة المرئية طي غلافها بلونها الأسود الشفاف تقريباً، إشعاراً بهذا الجموح، بهذا التحدي حيث الصدر يتصدر جسدها، وما في ذلك من امتلاء بهواء الحرية، والشع يحلق بها عالياً، في هيئة جناح، واليدان لا تخفيان نشوة الامتلاء بالفراغ والحرية، وهكذا الحال مع القدمين العاريتين في قفزة ” أوبرالية ” ضمان أمان موعود به جسدها لآت، أو لما يعجز الرجل الذكر” الشهرياري ” عن استيعابه. خطابها !

ربما لهذا التوصيف كان ويكون أول عنوان فرعي، وهو العنوان الحامل لكل عناوين الكتاب في الداخل، ويكون الخطاب إلى اللامحدد، إلى المعني بشيء محوَّر لديه، وهي بأشيائها مغايرة ( أحضنّي وأحكم قبضة ذراعيك حول كتفي، احم ظهري فالخوف يعصف بي من هناك، ابن ٍ قلاعاً من الأمان خلفي، أعد لي ثقتي بتلك الزاوية الميتة التي تخون مساحات البصر وتحجب رؤيتها.. احمني من صحراء هذا السرير القاحل المحتل بآلاف من جحور الثعابين والعقارب التي تخرج ليلاً…ص13).

ربما يكون هناك من ينسكن بالذكورة ويقول معلقاً وبسخرية: الذكر الذي ترفضه تلوذ به. كيف ؟ لكنه الذكر الآخر موهوب الطبيعة، وليس الثقافة، ذكر الحياة الذي لا يحلق لحيته أو يربّي شاربيه كما يشتهي ويتباهى بهما، إنما ذكر الحياة المتفاعل مع المرأة. إنه الآخر الذي يقدّر سره في اسمه، وهو يحمل بنصف سرها على الأقل، دون ذلك يفقد خطاب القول فاعليته، مرامه ومقامه.

ولتكون أخلص لأشيائها، لتشدد على ولاداتها الدائمة وليست البيولوجية وحدها، تنوع في الكتابة، جهراً، وتعدياً لحدود الكتابة المتداولة، حين تحاول التأريخ لمفهوم الاغتصاب، ما يتجاوز به الجانب الجنسي( هو كل فعل يمارَس ضد جسد الآخر وبأية وسيلة اختراق كانت مادية أو معنوية.. ص 14).

اللغة نفسها بهذا المعيار اغتصاب لأن هناك اصطلاحاً متفقٌ عليه، وهو مفروض بمحتواه، ولا تمثل الجميع، لأن كل تهجئة غير دقيقة لحرف أو فعل أو اسم فيها، لا تعد خطأ، إنما ما يجعلها إقلالاً من قيمتها، وهي تشدد على مرتكزاتها عبر مفهوم” صحتها “، حال ”سيبويه” اللاعربي وهو يستجيب لرغبة العربي على طريقة الفراهيدي، في تقعيد اللغة، كما مارس الأول ضبط الشعر.

عالية هذه، عالية الجرح والنزف والترجمة الدامية بامتداد عمرها، لا تنسى أمها نزيلتها في زنزانة الذكَر العابرة للتاريخ، وسلفها في المعاناة، عبر تسمية أخرى لفينيكس، أي” العنقاء” في رحلة العنقاء ” وسردها الذي يقرّبها من الواقع، سوى أنه يعرّيه في المخترَق فيه( أمي ها أنت تقفين ثانية بوجه الظلم، هذه المرة تمسكين يدي الصغيرة وتحمينني من مزايدات أسواق النخاسة المقنعة )

إنها مشهديات الكولونياليات الذكورية الموزعة بطرق شتى في العالم أجمع، وفي منطقتنا أكثر، تقديمها من قبل أمها بـ ” يدها الصغير ” مكاشفة لبراءتها، ولتجاهل غضاضتها، حيث تنتظرها أسواق النخاسة المقنعة والعصرية بصيغ شتى.

حيث يُنظَر إلى المرأة كما هي وإنما كما هو موصوف بمقاييس خاصة من قبل” سيدها ” و” ولي أمرها ” ومقرر مصيرها !

لا تخفي عالية نشوة مشروعة ومنفتحة على اللاصائر والمسمى في آن، على ما يغاير مشتهى الذكر وتعاليه، وهي تسأل أمها عن تاريخ ولادتها، فيكون يوم ” نوروز ” ونوروز هذا رغم أنه ذو رمزية كردية خاصة، وتذكير بـ” كاوا الحداد ” ولكنه كاوا الذي لم يدشن اسمه ولي أمر أحد، ” رب عائلة مثلاً، إنما ما يكون مستهل حياة منتظرة، وفي تعليق عالية ما يفيد( نعم ولدت ٍ في آذار، الشهر الذي تصاب فيه الأرض بثورة العشق وشبق التناسل.. ص 39).

طائر فينيكس عالية يتنقل بها، معها، خلالها إلى أزمنة وأمكنة تتفاعل معها، في عجينة خيالها، وخيالها يهبها خميرة الانبثاق مختلفة، حيث وهج المعنى يدلو بدلوه في فضاء المنشور روحياً، وكما في وحام” آفستا ” باسمها، بالتداخل معها، النص المستحدث هنا:

يا أبتها القيثارة السومرية التي حملت أوتارها أصالة الزمن.

يا امتداد روح آلهة الحب والعطاء

يا طفلة ولدت أمّاً واستعجلت الوقت في رحمي لتحمل معها الدف، ونور السموات إلى قلبي الذي كان ينتظر شمس العطاء.. ص 68.

هذه الاستمرارية المتنامية إشعار بخصية ديمومة الروح، وقد نسِبت إلى جوهرها الروحي. حيث تكون النار، وللنار بدعتها، طلسمها وانبثاق نورها الداخلي، كما هو الاعتبار المركزي للنار بمرجعيتها الكردية، كما لو أن الكردية في نص عالية أقول عالية، باسمها تعبيراً عن نسَب في ثول الشعر، تترجم حياتها مذ وجِدت في كائن كردي، جماعة كردية، عشيرة كردية، شعب في انتظار كيانه الجغرافي، أمة على وعد بهويتها التاريخية السياسية، مجتمع يبقى الجسد فيه بقوتيه المتفاعلتين: الرجل والمرأة، هكذا تمضي إلى الماضي، أو يأتيها الماضي بتعويذة الشعر، وقد أودعت الشعر أريحيتها الروحية، وأفستا ملحمة الروح الكردية المعتبَرة والمنتظرة لحظتها الفينيكسية.

المشـاهدات 26   تاريخ الإضافـة 14/03/2025   رقم المحتوى 60509
أضف تقييـم