النـص : عندما نتحدث عن معززات الهوية الوطنية، غالباً ما تتصدر اللغة،الجغرافيا، الرموز الوطنية، التاريخ المشترك ، لكن هناك عنصراً آخر غير محسوس، ينسج المجتمع العراقي في ترابطه الفريد "المصاهرة" هذه الظاهرة التي بدأت كرابطةٍ أسريةٍ فردية تراكمت عبر الزمن لتُصبح شبكةً اجتماعيةً معّقدة تعكس روح التلاحم المجتمعي وتجعل الاعتزاز بالآخر جزءًا أصيلاً من الفطرة، بعيداً عن التصنيفات الطائفية أو القومية أصبح العراقي يرى في الآخر أخاً أو خالاً أو نسيباً، مما عزّز مشاعر الاحترام المتبادل والتعايش وجعل من الهوية الوطنية نسيجاً متيناً يصعب تفكيكه. في النصف الاول من القرن التاسع عشر حين قرر الشيخ شمخي آل جبر، شيخ عشائر بني حسن، أن يستوطن أرضاً جديدةً بعد وفاة والده لم يعتمد على القوة وحدها لتأمين استقراره، بل لجأ إلى وسيلة تعزّز ديمومة العلاقات بمن حوله فكانت "المصاهرة" إذ تزوج أولاً من عشيرته الأقرب "الشرمان" ثم من عشائر بني حسن المجاورين له بشكلٍ مباشر " آل دهيم، والبو عزيب، والبو عارضي" لتتحول المصاهرة معززاً للعلاقة وصمام أمانٍ اجتماعيٍ له ، يضمن التماسك ويحوّل الصراعات المحتملة إلى علاقات نَسبٍ وقرابة، لم يكن ذلك مجرد خيارٍ فردي بقدر ما كان أسلوبَ حياةٍ متّبعاً في عددٍ من المجتمعات العراقية، إذ أصبحت المصاهرة وسيلة لاحتواء الخلافات وتحويل النزاعات إلى تحالفات طويلة الأمد، فالمصاهرة لعبت دوراً تاريخياً في إنهاء النزاعات بين العشائر وتأسيس تحالفات طويلة الأمد، وحتى وإن كان بعض مظاهرها مرفوضاً مثل "فصل النساء" الذي فيه ظلماً للمرأة، إلا أنه في سياقه التاريخي كان يُنظر إليه كأداة فعالة لتعزيز الاستقرار الاجتماعي والترابط المستدام. ولم تقتصر المصاهرة على العشائر القريبة بل كانت بعض العشائر تتزاوج عمداً مع عشائر أخرى من طوائف أو قوميات مختلفة لتعزيز أواصر التلاحم مما خلق واقعاً اجتماعياً يعكس التنوع العراقي. على سبيل المثال، هناك زيجات كثيرة بين العرب والكُرد، والتركمان والعرب، وحتى بين المسيحيين والمسلمين، إذ امتزجت العائلات وتداخلت الأنساب مما ساعد في بناء هويةٍ وطنيةٍ موّحدة تتجاوز الانقسامات الطائفية والقومية. تاريخياً، لم تكن المصاهرة مقتصرة على العشائر أو العامة بل امتدت إلى السُلالات الحاكمة حيث كان زواج الملوك من أميرات أو نساء من شعوب مختلفة سياسة معتمدة لتوطيد العلاقات بين الدول كزواج الملك الآشوري "آشور بانيبال" من أميرة بابلية، كانت خطوةً استراتيجية لمنع النزاع بين القوتين العظميين آنذاك، تماماً كما حدث لاحقاً في الدولة العباسية والعثمانية، حيث كانت المصاهرة أداةً لتعزيز الاستقرار السياسي والاجتماعي، ودمج الشعوب المختلفة تحت مظلةٍ واحدة. عبر القرون، لم تؤدِ المصاهرة إلى خلق روابط اجتماعية فقط بل ساهمت أيضاً في تنمية الشعور الطبيعي بالغيرة على الآخر وحمايته لأن العراقي ينظر إلى أبناء طوائف وقوميات مختلفة على أنهم جزءٌ من امتداده العائلي. هذه الغيّرة الفطرية تظهر في الأزمات إذ يتّحد العراقيون بغضِّ النظر عن انتماءاتهم ويشعر كل طرفٍ بالمسؤولية تجاه الآخر ، إنها ليست مجرد مشاعر طارئة بل نتيجة تراكم طويل للعلاقات الأسرية المختلطة التي جعلت المجتمع العراقي أكثر تماسُكاً،أما في العصر الحديث فقد بدأت المساهمة الواضحة للمصاهرة كمفهوم للترابط الاجتماعي المتنوع تحديداً في المدن الكبرى مثل "بغداد، الموصل، والبصرة" إذ ساهم التمازج الاجتماعي في كسر الحواجز بين مختلف الطوائف والقوميات لم يكن ذلك أمراً مفروضاً بقدر ما كان نتيجة طبيعية لحياة المدن، حيث تتقاطع الأنساب والروابط في بيئة ديناميكية تحفّز التداخل بين العائلات المختلفة. ومع مرور الزمن لم تبقَ هذه الظاهرة حكراً على المدن الكبيرة، بل امتدت إلى "جميع المدن العراقية وحتى الأرياف" لتصبح نسيجاً أكثر تعقيداً وفي الوقت نفسه أكثر جمالاً. في الماضي كانت بعض العوائل تتمسك بتقاليد تمنع التزاوج مع من يختلف عنها في الطائفة أو المذهب أو حتى العائلة أحياناً ولكن الزمن غيّر هذه المفاهيم تدريجيا، إذ لم تكن هذه العادات قائمةً على الكراهية، بقدر ما كانت جزءاً من العقلية المجتمعية التقليدية التي تفضّل الزواج ضمن الدائرة الضيّقة حفاظاً على العادات والتقاليد. ومع انفتاح المجتمع ولاسيّما في العقود الأخيرة بدأ العراقيون يتجاوزون هذه الحدود تدريجياً، واليوم نشهد عائلاتٍ عراقيةٍ لم يكن من الممكن أن تتصاهر في الماضي لكنها اليوم تتحد بروابط عائلية متينة مما يدل على التحولات العميقة في بنية المجتمع العراقي. لا يمكن إغفال دور التقدم التكنولوجي والاتصالات الحديثة في تعزيز هذا التحول غير المحسوس، ومع ظهور الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الحديثة، تراجعت الحواجز النفسية بين فئات المجتمع المختلفة، فقد أتاحت التكنولوجيا للعراقيين التعرف على بعضهم البعض بعيداً عن التصنيفات التقليدية، إذ أصبحت العلاقات تُبنى على الفكر والتقارب الثقافي أكثر من أي وقتٍ مضى. هذا الانفتاح رغم بعض التحديات التي قد يفرضها إلا أنه ساهم بشكلٍ إيجابي في إذابة الفروقات المصطنعة وتعزيز مفهوم التعايش الحقيقي. إنَّ النتيجة الطبيعية لكل هذه العوامل هي أنَّ ابن البصرة يرى في ابن الموصل امتداداً له تربطه به أواصر الدم أو الصداقة أو المصير المشترك، فعندما يتحدث العراقي عن وطنه، فهو لا يتحدث عن فئةٍ أو مجموعة بل عن كيانٍ جامع يحتضن الجميع ، إذا ما استثنينا الخطاب المبني على المصلحة الفئوية . مما تقدم يتضح أن المصاهرة لم تكن مجرد زيجات فردية بل كانت ولا تزال أحد أهم العوامل التي حصّنت المجتمع العراقي ضد محاولات التفرقة، وخلقت بقصدٍ او بغيره واقعاً يجعل أي محاولة لتفكيك الهوية العراقية تصطدم بجدار صلب من العلاقات المتشابكة التي تجعل العراقي يرى الجميع أهلاً وأقاربَ له ، وعلى الرغم من أنها عنصر غير ملموس في السياسات والخطابات، إلا أنها تشكل إحدى أقوى ركائز الهوية الجامعة. فالمصاهرة ليست مجرد صلة قرابة بين عائلتين بل منظومة اجتماعية متجذرة ساهمت في دمج المجتمع مع بعضهم البعض، وجعلت الانتماء إلى الوطن يتجاوز العرق والمذهب، ليصبح شعوراً طبيعياً بالارتباط بكل فرد يحمل هوية هذا البلد، مهما كان أصله أو خلفيته، إنها، بحق " النسيج الخفيَّ " الذي يعزز الهوية الوطنية، ويجعلها أكثر قوةً وتلاحماً مع مرور الزمن.
|