الأربعاء 2025/3/19 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
غائم جزئيا
بغداد 21.95 مئويـة
نيوز بار
سيميائية العنوان مقاربة دلالية في مجموعة (تغير الأسماك رأيها على اليابسة) لـ(حسين المخرومي)
سيميائية العنوان مقاربة دلالية في مجموعة (تغير الأسماك رأيها على اليابسة) لـ(حسين المخرومي)
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

أ.د. محمد الحاج هادي

رئيس قسم اللغة العربية – جامعة الفلوجة

من الانعطافات الطريفة في بعض نتاجات الإبداع الأدبي المعاصر (سيميائيةُ العنوان) وتماهيها دلاليا مع المضمون لتشكّل إيقونة تدل على عمق الصورة الأدبية وقصدية التعبير الفني اللذين يوصلان إلى تناغم غائر في المفهوم يتجلّى بأشكال متوافقة بحسب ما يقتضيه فحوى النص ليحسم للمتلقي الصراع اللفظي القائم، فيسير في قراءاته بخطا واثقة وهو يصحب في ذهنه هذه السيميائية.

أقول هذا وأنا أنهي قراءتي الأدبية لمجموعة الأديب الشاب (حسين المخزومي) التي عنوانها (تُغيّر الأسماكُ رأيَها على اليابسة) بطبعتها الأولى في (نيسان – 2021م) الصادرة عن دار (الرافدين) في بغداد، وقد استوقفني عنوان كل نص في هذه المجموعة زيادة على العنوان العام للمجموعة نفسها، وحسبك أنْ تعرف أنّك لنْ تعدمَ في كل عنوان منها إشارة سيمائية تشكّل مع نصها تكاملا دلاليًّا يشي بحنكة الاختيار الذي يوصل إلى التماهي المقصود مع النص، ومن ذلك - مثلا - عنوان أحد النصوص، وهو قوسان متقابلان بينهما فراغ، فكان النص بهذا الشكل:

(   )

الفراغ ..

يشعر بالوحدة

حين يملأه الناس.

وانظر إلى الارتباط بين العلامة واللفظ الصريح، ليدخل المتلقي في مساحة دلالية واسعة تعطيه أفقًا رحبًا في إنتاج دلالات جميلة تدور في فلك تماهي الإشارة مع النص.

وقد تكررت وقفاتي عند عنوان كل نص ومضمونه، وإذا بي أجد منتجًا إبداعيًّا سعى فيه مبدعه إلى جعل العنوان إشارة سيميائية ليستْ توافقية أو اعتباطية، بل مقصودة قد صيغتْ بإحكام فني يدل على وعي فلسفي بعيد الغور، وأكاد لا أكون مغاليًا إذا قلتُ: إنّ عنوان كل نص من نصوص مجموعة (حسين المخزومي) فيه أفق دلالي واسع يرتبط ارتباطًا عضويًا مع النص، ولا يمكن الاستغناء عنه في رسم الصورة الدلالية الكاملة لفهم فحوى النص، فتوسعتْ تقييدات الوقفات وتشعّبتْ خطوط المسافات على متون الورقات حتى نهاية المجموعة، وبعد الانتهاء أردتُ كتابة مقال أدبي أشير فيه إلى هذا النمط الإبداعي الجميل في العنوان، فإذا المقال يطول، فآثرتُ أنْ أكتب عن عنوان المجموعة العام مع دعوة إلى النقاد والباحثين إلى دراسة سيميائية العنوان في منتج هذا المبدع الشاب (حسين المخزومي)؛ لأنّني واثقٌ بأنّ هناك عيونًا تنتظر، وآذنًا تتشوق، وعقولًا تراقب، وعندئذٍ يُكشف لهم هذا المنحى الإبداعي بتألق فني جميل.

إنّ هذه المجموعة تضم (71) نصًّا بعنوان (تُغيّر الأسماكُ رأيَها على اليابسة)، وأسارع هنا، فأقول قبلًا: لقد كشفتْ نصوص هذه المجموعة عن قلم عالم، وعقل فيلسوف، ولسان مبدع، أمّا ما أقوله بعدًا، فعنوان هذه المجموعة هو جملة فعلية، ولو استأنسنا بالنظرة اللسانية التجريدية لبيان تأليفها لوجدناها تتألف من (فعل مضارع + فاعل + مفعول به + شبه جملة)، وهو تركيب يتمثل بالرتابة المعيارية لتأليف الجملة العربية الفعلية، فلا تقديم ولا تأخير ولا حذف ولا تقدير، وهذه المظاهر من مناورات البيان العربي في التركيب، إذن هو تأليف طبيعي، فهل هذه الرتابة دلّتْ على إبداع مقصود؟، أقول: نعم؛ لأننا لو غيّرنا في ترتيب هذا التركيب لأعطى لنا معاني لا تنطبق تمامًا على المعنى المقصود في الترتيب الاعتيادي الأول، فلو قدّمنا المفعول به – مثلا  -(تُغيّر رأيَها الأسماكُ على اليابسة) لكان تقديمه يدل على خصوصية التغيير، وتعني هذه الخصوصية أنّ هذا الأمر غريب في الأسماك، فاحتيج إلى التنبيه عليه بتقديمه، وكذلك لوقدّمنا شبه الجملة ... إلخ، فيبدو أنّ المرسل جاء بالتريتب الاعتيادي ليدل على أنّ أمر التغيير مستساغ واعتيادي في الأسماك، وليستْ فيه غرابة، بل هو طبيعة متجذرة فيها، وربما غابتْ معرفتها عن كثير، وتجلتْ مظاهرها لقليل.

إنّنا سنتعامل مع دلالة النص على الحقيقة الفلسفية في إسناد الحدث إلى محدثه، بعيدًا عن قيود الواقع المحسوس، فنتعامل مع (الأسماك) بحسب ما أراد لها النص أنْ تكون، وإنما قلنا هذا من أجل أنْ يسير التحليل الأسلوبي على وفق مقتضيات الحقيقة المفترضة، فلا نقف عند حقيقة علاقة الحدث بالمحدث، وإنما يسعنا هنا الخيال الإبداعي الذي يتعاوره المكنر البلاغي.

قبل كل شيء أقول: إنّ هذه الجملة تتألف من مقطعين دلالين يفصلهما موقع النبر، أمّا المقطع الأول فهو (تُغيّر الأسماكُ رأيَها)، والمقطع الثاني (على اليابسة)، فلو اكتفى المرسل بالمقطع الأول لما أعطى البعد الدلالي الفلسفي الذي أراده من تقييده الحدث بالمقطع الثاني، وهو شبه الجملة (على اليابسة)، إذ أصبحت الصورة متغايرة تمامًا عمّا كانتْ عليه لو اكتفى بالمقطع الأول، وهنا يُسجل للمرسل القدرة الكامنة في فكره على هذه الاكتناز الدلالي الكبير الذي أعطته (شبه الجملة) بما فتحته من علاقة التضاد الحقيقي بين بيئة الأسماك واليابسة الذي أعطى المتلقي مساحة واسعة من التفكير العميق بالصورة المتولدة؛ ليربط هو خيوط المعنى، ويخرج بفهم أدبي فلسفي يجعله يقف على عتبة تذوق الإبداع.

إنّ المرسل استعمل لفظ (تُغيّر)، وهو فعل مضارع مرفوع، يمثل صدر الجملة الفعلية، واستعمال الفعل في الدلالة اللغوية العربية يدل على الحدوث والتجدّد، بمعنى أنّ هذا الحدث (التغيير) مستمر في (الأسماك)، ومتجدّد بحسب معطيات محيطها، ولاسيما أنّ الفعل المضارع له دلالة على استمرارية الحدث، وهذا يعطي إشارة إلى ما تمتلكه هذه (الأسماك) من الحرية في التغيير، وهناك أيضًا أمر مهم، وهو أنّ دلالة صيغة الفعل، وهي صيغة (تفعّل) تدل على أنّ التغيير ليس من الخارج، أي: ليس بأمر أحد، وإنّما نابع من قناعة داخلية لدى (الأسماك) تتطلب التغيير بما يتلاءم مع محيطها، فقامتْ بالمعالجة، وهذا يضمن لها الديمومة التي ترتبط بوضعها الجديد، فهذا التوظيف اللفظي للفعل المضارع يُبين ضرورته المقصودة في الاستعمال موازنة بأي تركيب لغوي آخر، وهنا نستأنس بأحد أركان النظرية البنيوية، وهو الاستبدال العمودي أو الأفقي في تحليل الألفاظ من أجل الوقوف من كثب على قصدية التركيب وأهميته في بيان المراد، ومنها – مثلا -: (الأسماكُ يتغيرُ رأيها على اليابسة) أو (تغيير رأي الأسماك على اليابسة) أو (الأسماكُ متغير رأيها على اليابسة) ... إلخ، فكل هذه الجمل لا تعطي المعنى الذي أعطته الجملة المستعملة، ولعل أهم اختلاف أنّ هذه الجمل تجعل التغيير ليس من داخل (الأسماك)، إنما هو مفروض عليها، وبهذا تفقد (الأسماك) حريتها في الاختيار، وتصبح تابعًا، فتبرد الصورة المنتزعة، وتبتعد عن الفهم الفلسفي للإبداع.

ونأتي الآن إلى استعمال المرسل للفظ (الأسماك)، وهو اسم معرفة، بنيته الصرفية جمع تكسير على وزن (أفعال)، ولو استعملنا نظام الاستبدال لكان باستطاعته أنْ يقول: (يُغيّر السمك)، فما الفرق بينهما؟، والإجابة أنّ (أسماك) جمع تكسير يدل على القلة، و(سمك) اسم جنس جمعي، وإرادة الجنس تدل على الكثرة، ولا شك أنّه ليس كل (الأسماك) تمتلك القوة الكامنة في تغيير رأيها على اليابسة، وهي في هذا كبني البشر يتفاوتون في كوامنهم.

أمّا اختيار لفظ (رأي) وإضافته إلى (الأسماك) ففيه بعدٌ مهم، إذ إنّ جعْل (الأسماك) تمتلك رأيًا يدل على وعي وقرار، فهذه الأسماك ليستْ أسماكًا اعتيادية، وإنما هي أسماك ذات إرادة عقلية تميز بها موجوبات الضرورة في التغيير بحسب مستجدات محيطها، وهذا له ارتباط واضح في اختيار لفظ (أسماك) على (سمك) بما بيّناه آنفا.

بقيتْ لدينا شبه الجملة (على اليابسة)، وفيها يتمثل التقييد بالمتعلق النحوي بجماله المعنوي الذي فتح الباب على مصراعيه في نضج الصورة الأدبية، ولاسيّما أنه استعمل حرف الجر (على) الذي يشي بديمومة حالها الفوقية موزانة لو أنه استعمل حرف الجر (في)؛ لأنه يحتمل أنّ (الأسماك) صارتْ على غير حالها، فدخلتْ في اليابسة، وليس فوقها، وشتان بين الصورتين.

بعد هذه التحليل اللغوي الذي أبان لنا عن دقة دلالة الألفاظ ندلف إلى النظرة الأدبية المتصورة من تمام جملة العنوان (تُغيّر الأسماكُ رأيَها على اليابسة)، فنجد في جزئها الأول إحساس الرطوبة، وفي جزئها الأخير نجد إحساس الجفاف، وهذا التضاد مهم في التماهي مع نصوص المجموعة التي اكتنزتْ أفكارًا متنوعة من الدلالات، تتفاوت في قربها من أصول فهم الدلالة اللفظية في (الاقتضاء والتضمن واللزوم)، حتى تصل في بعض الأحيان إلى التنافر، ويبدو أنّ هذا التنافر مقصود – أيضًا -؛ ليهز العقل بتصوره، فتنبلج أمامه الصورة الفنية بأبهى أشكالها، فتعطي البعد الفلسفي الذي يهيأ المتلقي إلى نصوص المجموعة؛ ليرتقي بإداركه، فيرتشف من رحيق المعاني ما يدخله في حلبة الصراع الفكري القائم على فهم حقيقة الحياة ومتطلبتها بما يخلق جوًّا من المواءمة مع الخيال الناضج، وبهذا نتلمس الإبداع.

ختامًا أشكر المبدع الشاب (حسين المخزومي) على هذا المنتج الأدبي الراقي فكرًا ودلالة، راجيا له إبحارًا ماتعًا جديدًا في فضاءات الإبداع وعوالمه.

المشـاهدات 22   تاريخ الإضافـة 19/03/2025   رقم المحتوى 60693
أضف تقييـم