الإثنين 2025/3/31 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
السماء صافية
بغداد 17.95 مئويـة
نيوز بار
النسق الغرائبي والترميز في مجموعة (رقص جنائزي)
النسق الغرائبي والترميز في مجموعة (رقص جنائزي)
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

د. سمير الخليل

يتمركز الخطاب السردي في مجموعة (رقص جنائزي) للقاص (ناصر قوطي) حول عوالم مكتظة بروح الترميز، والانفتاح على النسق الغرائبي والمفارقة الحادة التي تتجلّى أحياناً، وتصل إلى حدود الكوميديا السوداء التي تثير نوعاً من الأسى والاشفاق، ونوعاً من الكشف والتحريض والاحتجاج على واقع مأزوم وملتبس، وتكشف ثيمات ومضامين القصص في هذه المجموعة عن تجليات غرائبية على مستوى الحدث والشخصيات وتنفتح الدلالة على ترميز الوقائع وتقديم رؤية حادّة عن طبيعة الصراع بين الذات والآخر، والذات والواقع وتكشف أيضاً عن هيمنة التناقضات والصراع بين الثنائيات المتضادة: (الحلم/ الكابوس) و(القوة/ الضعف) و(الوعي/ الواقع) و(الخيال/ الحقيقة) و(الواقع/ الرمز) و(الكينونة/ الوهم) وغيرها...

تضمنت المجموعة نصوصاً في القصّة القصيرة مع ملحق تضمّن نماذج من القصّة القصيرة جداً، وكان بعضها عبارة عن سطر أو أكثر لكنّها تعبّر عن فكرة أو موقف كما هو الاشتغال في مثل هذا النمط الذي يقوم على التكثيف والشعرية والتقاط زاوية أو مشهد ذي دلالة وإحالة للترميز أو الإيحاء أو التأويل. ومن الظواهر الفنية التي امتازت بها هذه المجموعة هو الإشتغال على اللغة وتوظيف تجلّياتها التعبيرية وتقديم نمط من الأداء الدال على وفق نسق مختلف، وعميق الدلالة يمزج بين الشعرية والإيحاء واستبطان الشخصيّات والكشف عن دواخلها عن طريق البوح أو الحوار الداخلي (الفردي) أو خلق نوع من الحوارية فيما بينها لتقديم شكل ومحتوى الصراع مما يجعل القاص يتعمّق بعيداً في الكشف عن مضمرات الواقع وتعريته وتقديمه بشكل ساخر ومن زوايا الالتقاط الحادة، وتمتاز القصص بذلك النمط من الأداء اللغوي الثري والدّال البعيد عن الأداء التقريري والمباشرة التقليدية، والقاص يزجّنا في عوالم غرائبية عن طريق فاعلية الأداء على مستوى اللغة، والمفارقة والترميز التي يشوبها بعض الغموض الذي يستقطب المتلّقي ويغرس دالّة الجذب والبحث واستقصاء مصائر الشخصيّات، وتتسّم شخصيّات القصص بمحاولتها التشبث بالبقاء واستئناف الصراع ضد واقع أكثر من امكانياتها فتلجأ إلى الحلم أو الوهم للتخلّص من ربقة العوز والإغتراب والتناقض.

والقصص بمجموعها تتنافذ وتتماهى مع الدلالة السيميائية للعنوان الذي يحمل التناقض والغرائبية، بين الرقص والجنائزيّة حتى تستحيل الوقائع إلى كوميديا سوداء، تعرّي تراجيديا الأحداث وعجز الشخصيّات ازاء مهيمنات وضغوط الواقع، وبذلك يسعى القاص إلى إدانة الواقع من خلال تقديم هذا النوع الإشكالي من الشخصيّات التي تسعى للتغيير والاحتجاج، لكنها تسقط في فخ المواجهة، والنسق الغرائبي وتجلّيات الكوميديا السوداء التي لا تتطابق مع سيميائية العنوان الذي يتصدّر المجموعة فحسب، بل إنَّ هذا التطابق في الدلالة يكون في التوازي مع دلالة العتبة التي وصفها الكاتب كاستهلال لأولى قصص المجموعة المرسومة بـ(الوجه الثالث) ولعلّها استعارة من نص لإدغار آلان بو:

"جمهور بشع على الباب، ينطلق على الدوام يهجم ضاحكا، مثل سيل شبحي يجري، جمهور يضحك لكن لا يعرف الابتسام، آه... فلنبك لأنه لن يسطع بعد اليوم غدٌ على هذا العاهل الحزين...". (المجموعة: 5).

تنطوي هذه القصّة على نسق ترميزي، وهي تلتقط وقائع وشخوصاً تبدو في وضع مرتبك ومضطرب وتحتل موضوعة الضحك كدالّة على أن العالم المأزوم والمحتدم والسوداوي يحتاج إلى الضحك المرّ أكثر من أي موقف آخر، فالسخرية هي ذروة التراجيديا ولعلّ هذه القصّة تتماهى مع فكرة ومقولة (هنري برجسون) حين وصف المفارقة أو الضحك على أنه يمثل (الصراع بين الذات والمحيط..."، وتجسّدت ثيمات وتحوّلات النص من خلال توظيف الحوار التعبيري، عن طريق أداء لغوي دال وعميق كما نجد في هذا المقطع الحواري:

  • "أنت لم تضحك؟
  • لا بالرغم من أن حياتنا نكتة فجّة تدعو للضحك وقد نضحك إذا ما...
  • إذا ماذا؟
  • إذا ما حلمنا أو متنا، لحظتها بمقدورنا أن نضحك من القلب أن نفعل أي شيء، أن نكشر عن ابتسامة تظهر أسناننا التالفة، لأننا لم نعد نخجل حينها، ولكوننا عراة ووحيدين فنستطيع أن نهزأ، ولأننا تكفنّا في حياتنا ولبسنا الأقنعة مثلما ترتدين جبتك وحجابك وأشياءك التحتانية و....". (المجموعة: 5- 6).

ويكشف هذا المقطع الدال عن مضمون القصّة، ووجود الرجل الذي أدمن الخمرة والمرأة، والقطّة التي تعرّضت إلى الدهس، فالنص يجمع الوحدات والحالات المتناقضة ليكشف عن غرائبية الواقع وأزمته، وتناقضاته الحادّة، وأنه لا يستحق سوى أن يقوم الإنسان بالضحك إلى حد الإعياء.

ونلحظ أن الشخصيّة تعاني الخذلان والوحدة والإغتراب ويقرّر أن يتخلّص من أحلامه: "حين رحت أبكي بنشيج مكتوم، حين انسحبوا وهم يطلقون ضحكات ساخرة فيما التجهّم كان يرسم ملامحهم.. يلصقها على جدران غرفتي، الضحكات تلتصق على الكلس المتساقط منها، تتهاوى، ومنذ تلك الليلة عاقرت الصمت في صحوي ومنامي لم أعد أحلم، ولم أعرف شيئاً اسمه الضحك". (المجموعة: 14).

وحين يغيب الضحك والحلم يتحوّل الإنسان إلى خواء، وإلى كائن معزول بين الجدران وهي دالّة لقطيعة الشخصيّة وتناقضها مع الواقع المحيط.

أمّا قصّة (ليلة الزفاف) فإنّها تنطوي على مفارقة حادّة وتتضمن وقائع غرائبية تكشف عن طبيعة الشخصيّات وطبيعة الواقع الذي يهيمن عليها وتبرز التناقض بين الحدث ودلالاته، وينفتح النص على ترميز وتقديم قراءة لوقائع التناقض، ذلك التناقض الذي جسّدته شخصيّة العم (سوادي) وهو يحضر زفاف (حسن ومريم) ويصرّ على الإسهام بهذا الاحتفال واطلاق الرصاص من مسدسه الغرائبي الذي ورثه عن أجداده والمحفوظ في صندوق أثري ضمن أسرار وممتلكات عائلته، وكان يخفيه (بصرّة) محاطة بالغرابة، و(سوادي) يذكر دوماً هذا المسدس الأثير والغريب، ونجد الحوار باللّهجة العامية الذي صرخ به العم (سوادي) "اسمعوا.. هذا الورور عزيز عليّ كلّش... مال جد جد جدّي وأبوي الله يرحمه خلاّه أمانة عندي...؟ يمكن صار له ميتين سنة ثلثميّة... بس الله يدري.. ومحد رامي بيه كبل.. وعلمود ابن اخوي حسوني وبنتي مريوم راح اثوّر بي اليوم". (المجموعة: 16).

وحين تحين ساعة اطلاق الرصاص تحدث المفارقة ويتحطّم المسدس التاريخي وقد انفجر المسدس بعنف ولم يبق منه إلاّ القبضة الفضية التي لم يتخلّ عنها (سوادي) على الرغم من الحروق الذي أصابت يده، "أمّا العريسان وبعد انجلاء الغيمة وبعد أن هرب من هرب وهو يسعل كان العريسان مغمورين بالسخام من أخمص قدميهما حتى هامتيهما، إلاّ أن العيون التي كانت تنظر بفزع وتبحث عن الآخر، لقد تشظى السلاح القديم". (المجموعة: 17)، وقد افسد سوادي الإحتفال ونقل العروسان إلى المستشفى، وساد السخام والخوف والإستغراب، وقد أصيب (سوادي) بالخيبة والخذلان لما حدث مع مسدسه الموروث الذي قوّض زفاف ابن أخيه، لكنّ السخرية أو الكوميديا السوداء تكمن في حوار زوجة (سوادي) وهي تمسك قبضة المسدس الأسطوري: "زوجته التي قلّبتها في راحتها وهي تنعم النظر فيها طويلا وتغمغم هو هذا اللي جنت تخوفني بي كل هاي السنين..يا سبيطة..هو اللّي جنت تبسطني بي... إني إلك يا سوادي"(المجموعة: 17).

بينما أصيب سوادي بخيبة جعلته "يعاقر الدار لا يخرج من باب غرفته لأنه كان يطيل النظر إلى مقبض المسدس الفضي وفي داخله يمور حزن لا يوصف". (المجموعة: 18).

لعلّ الكوميديا السوداء وخيبة البطل وموت الحلم تتكرر أو تتجسّد في قصّة مؤثرة ودالّة أخرى تحمل عنوان (الكنز) إذ تتحدث عن شخصيّة تشبه شخصيّة سوادي هي شخصيّة الممثل الكومبارس (حسن المياحي) الذي يعمل في المسرح الوطني، وعمله في المسرح كومبارس، وهامشيته في الحياة قادته إلى إدمان الخمر إدمان الوهم المرتبط بأمنيات أو حلم مزيف مكبوت هو شعوره أو توهمّه بأن هناك كنزاً ثميناً تحت أرض غرفته وبيته البائس مما جعله يبدأ برفع بلاطات الغرفة وحفر حفرة عميقة لكي يعثر على الكنز تحت مراقبة ودهشة زوجته البائسة، وقد انتقل إليها الوهم والحلم بالعثور على الكنز الموعود وهم لا يملكون ثمن الطعام ومتطلبات بناتهم.

وظل (المياحي) يحلم وهو يتناول الخمرة ويتعمّق في الحفرة على الرغم من انقطاع التيار الكهربائي وهو يردّد  في أعماقه ويتوعد الآخرين ومن معه في المسرح: من سيكون (حسن المياحي) لكنّ المباغتة الصادمة حين أحسّ بشيء صلد بدا له على أنّه الكنز لكنه يكتشف أنه طار لحجلة طفل: "وفي الضوء الراعش دقق النظر، لم يكن ذلك الشيء الصلد إلاّ إطاراً صغيراً لحجلة طفل، إنها عجلة من دفنها هنا، ولكن أي طفل كان يستخدمها!! هل كبر الطفل، هل أصبح رجلاً وسحقته إحدى الحروب، يتساءل في سريرته ورماها بعيداً، وتناول قنينته التي اوشكت على نفاذ ما فيها من سائل حارق وأفرغها في جوفه". (المجموعة: 29- 30). ويهيمن الحزن والانكسار على البطل الخائب وزوجته البائسة بعد أن تلاشى الحلم الغرائبي إلى الأبد.

ويمكن الاستدلال على المنحى الرمزي في هذه القصّة من خلال هامشية (حسن المياحي) ورمز مهنته كومبارس في المسرح، وإصراره على الوهم المسرحي بوجود كنز تحت أرض البيت، وحدوث المباغتة وهزيمة الحلم بعثوره على عجلة للأطفال، ورمزية الحدث تقود إلى سؤال هل كان (حسن) يبحث عن طفولته الضائعة أم حلمه في أن يجد ما يعيل به زوجته التعيسة وبناته؟! ويكتسب الخمر ومعاقرته من قبل (حسن) رمزية لانفصاله عن الواقع، وهروبه منه إلى عبثية الوهم والحلم كبديل للواقع الطبقي والاجتماعي، والقاع الذي يكتنف حياته ورمزية الزوجة التي تشير إلى دالّة انتقال عدوى الوهم والحلم والأماني الخائبة والمجانية وتنشطر قصّة (الكنز) بالشخصيّة المركزية ذاتها وهي شخصيّة (حسن المياحي) لتكون قصّة أخرى عميقة في غرائبيتها ورمزيتها هي قصّة (جيفارا يصحو ثانية)، وتبدأ القصّة بحدث غرائبي بعد أن قضى (حسن) ليلة خمر وأنس مع صديقيه (حميد الناعس) و(الطبيب يوسف) فوجيء بمحاصرة داره من قبل رجال الأمن: "في الساعة السادسة صباحاً صحا حسن المياحي على صوت إطلاقات ناريّة هبّ من نومه فزعا وهو الذي جاء في ساعة متأخرّة قضاها في سكرة عنيفة مع صديقيه حميد الناعس والطبيب يوسف". (المجموعة: 32).

وظلّ (حسن المياحي) يجترّ ورطته ويتذكر كل شيء لكي يدرك ما الذي حدث، وما الذي ارتكبه حتى يزور رجال الأمن وبهذه الطريقة المرعبة يتعرض إلى السؤال والعنف والتعذيب: "تلك الصفعات التي ظل رنينها يتردّد في أذنيه لسنوات طوال لسامع الشتائم التي سمعها، كما لو كان في حلم أو كابوس:

  • أنت جيفارا؟ - لا... – منو أنت؟.. – آني حسن...
  • يا حسن؟.. الصفعات والركلات لا تنتهي.. – حسن المياحي

السؤال هو هو.. – وين جيفارا...؟ - ما أدري

واستمرت الصفعات والركلات... – ما تدري؟!. (المجموعة: 32- 33).

قضى (حسن) ثلاثة أشهر في المعتقل ولم يطلق سراحه حتّى وقع على تعّهد أو ورقة لم يعرف كنهها وما تتضمنه لكنّه أراد الخلاص بأية طريقة... "كان حسن المياحي تراوده فكرة وحيدة أنهم يحكمون عليه بالاعدام وينتهي من كلّ المنغصّات والعوز، فالموت بالنسبة إليه لم يعُد إلاّ منقذاً له، من معيشته البائسة والمضطربة وعوزه الدائم وطبعه الخجول الذي يتركه حائراً أمام زوجته مريم وبناتها الثلاث حين لا يمتلك قرشاً لسدّ احتياجاتهم". (المجموعة: 35).

وتكشف القصّة عن المفارقة الحادّة والكوميديا السوداء حين نكتشف أنّ (حسناً) كان يلقبه بعض أصدقائه بجيفارا على سبيل المناكفة أو المزاح وقد التصقت به هذه التسمية ممّا جعل السلطات تتوهم وتعتقله على أنه (جيفارا) ويتمّ التحقيق معه للتأكد من شخصيته وهي مفارقة تحمل كثيراً من الحدث الغرائبي والترميز الخفي الذي يكشف عن بؤس وانسحاق شخصيّة (حسن) الكومبارس الذي يتحوّل إلى ثوري كبير، والإشارة الرمزية الأخرى تربط بغباء وبلادة السلطة التي تصاب بالتطيّر والفوبيا من أي تسمية تشير إلى الثوريّة أو الاحتجاج أو الوعي، ولا تنظر إلى الواقعة من زاوية كونها تسمية لا يقصد بها شيئاً ضد السلطة إنما للممازحة، ونجد الحدث الغرائبي يتكرر في كثير من قصص المجموعة ووضع الشخصيّة الرئيسية في خضم حدث عاصف يمثّل لها مباغتة تزيد من خيبتها وانكسارها.

وتتطابق قصّة (مفتاح) مع دلالة النسق الغرائبي والرمزي والتي تجسّد وجود شخصيّة مسحوقة طبقياً واجتماعياً تتخذ العمل في السوق من خلال (بسطية) يبيع فيها بقايا الحاجات أو ما يسمى بـ(الخردة) وهو رجل عجوز يعاني العوز والحاجة وتعدو بقربه الكلاب الصغيرة، وتقدّم إليه يوماً شاب وسأله عن ثمن القفل، ودار الحوار بينهما:

  • "كم ثمنه؟

رد العجوز دون أن يرفع رأسه:

  • القفل؟
  • القفل.

أجاب الشاب:

  • ربع.. ربع دينار.
  • إله مفتاح.

وبعينين كليلتين دامعتين ومن فم ادرد خرجت الكلمات متلعثمة:

  • رحمة الله واسعة يا ابني، ماكو شي ما إله مفتاح.. اللي يدوّر يلكه...

راح الشاب يفكر ونظراته الفاحصة تحرث الأشياء والحاجات الناقصة والمبتورة". (المجموعة: 42- 43).

وظل الشاب يفكر بالأشياء الناقصة والمبتورة وأعطى المال للرجل أكثر مما طلب.

تنطوي القصّة على رمزية قائمة حول العلاقة بين القفل والمفتاح ووجود الحاجات والأشياء المبتورة التي تتطلب أن يكمّلها الإنسان، وأن أي معضلة أو مشكلة لابدّ أن يكون لها مفتاح أو حل، وتلك هي الثيمة الرمزية في القصّة وهي ترصد مشهداً سريعاً من واقع مأزوم وتتطابق القصّة مع اشتغالات وقصص المجموعة بأسرها، أبارك للكاتب (ناصر) قدراته الإبداعية في كتابة القصّة القصيرة.

المشـاهدات 52   تاريخ الإضافـة 22/03/2025   رقم المحتوى 60795
أضف تقييـم