الإثنين 2025/3/31 توقيـت بغداد 21:08:11
+9647731124141    info@addustor.com
غائم
بغداد 22.95 مئويـة
نيوز بار
د.حميد محمد جواد وسرقة زمن الفنان
د.حميد محمد جواد وسرقة زمن الفنان
مسرح
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب د.فاضل السوداني
النـص :

عاد د.حميد محمد  جواد  عام 1965  من موسكو بعد أن أنجز دراسة الماجستير في السينما، وبدأ تدريس المسرح في معهد الفنون الجميلة حيث لم يوجد قسم للسينما آنذاك ، وهو كفنان وإنسان يمتلك القدرة على الدخول إلى قلب الآخر سريعا،بسبب روحه التمردية على البيروقراطية والعادات الاجماعية البالية ،ولا ينظر الى الفن كوظيفة وإنما يعتبره إبداع وقيمة فنية  عالية ، ويرفض الصنمية في التفكير، لذلك فإنه يتعامل مع المسرح بوعي تصوفي، وهو موسوعي الثقافة وعصامي في حياته، فقد تميز بعقله الشامل والمتنور مما خلق له الكثير من المشاكل مع زملاء المهنة . ‎إن وعي د.حميد وثقافته  الفنية والفلسفية ودعوته لتبني الفن بمفهومه الجمالي الخالص، وكثافة الإحساس بالزمن، وعبثية الوجود ، وميله إلى العزلة ،والعزوف عن المغريات التي تمنع الفنان من ممارسة الفن كوجود ابداعي. كل هذه الأسباب أثرت في عدد كبير من طلبته مما أدى الى أن تتحلق  حوله مجموعة من الطلبة الأكثر طموحا وتمردا، وسترتبط به وبمفومه الجمالي والفني للغور في التأمل والتفكير بإبداع مسرحي متميز ومتفرد ،وأصبح معروفا بين أوساط الفن ، بأن هنالك على ضفاف نهر دجلة يلتقي مجموعة من الفنانين الشباب مع إستاذهم د. حميد محمد  جواد يجلسون ساعات  متأخرة في الليل، وخاصة في أيام العطل للتأمل والتفكير في الفن ،والقراءة والتمرين الفكري  والفني لتكوين البصيرة الخيالية والذهنية ، وخلق مرادفات فنية صورية للتعبير فنيا عن الترادفات الحياتية لخلق معانيها ومفرداتها وصياغتها بافقٍ مسرحيٍ مما خلق لديهم مفهوما جديدا في العملية المسرحية وهو مفهوم مسرح الصورة، الذي اسسه د حميد عندما أخرج مسرحية هاملت ‎واستطاع د. حميد أن يطبق هذا المفهوم في معهد واكاديمية الفنون الجميلة عندما قدمت مسرحية "هاملت" في 20/3/1968 والتي اعتبرت ، وما زالت،

 

‎ظاهرة فنية فريدة خطت لها مفهوماً

 

‎بصرياً  للعمل في المسرح الذي تبنى هذا التوجه جيل مهم من الشباب في المسرح العراقي بعد  ذلك .فبالإضافة للتحليل الفلسفي الوجودي لمأساة الأمير الدنماركي  والأفكار الشكسبيرية ، فإن المخرج التزم النظرة الشمولية والتحليل البصري ــ الشامل والمقرون بالحس التعبيري الفني المتفرد في كل شئ، في الحركة، أو التكوين، والرؤيا الإخراجية البَصريّة ، والديكور كونه زمكان بصري بوعي تجريدي لكنه غني بالإيحاءآت والمعاني الفلسفية الرامزة والمعبرة والتي لها دلالاتها الشاملة حيث امتد إلى قاعة المشاهدين ككتلة تمثل باحة القصر متوازية مع ممشى على شكل صليب مجسم له دلالاته الطقوسية التي تثير في الجمهور الكثير من التسائل والشجن وخاصة عندما تشيع جثة أوفيليا أو عندما ينام هاملت على هذا الصليب مفكرا ومتأملاً وهو يهمس بحرقة (أكائن أنا أم غير كائن ). أن مساحة الديكور برموزه التجريدية يذكرنا بذات النهج للمخرج السويسري أدلف آبيا، أو الانكليزي جوردونكريج اللذان إهتما بعلاقة الكتلة بالفضاء ، إلا أن ديكور وسينوغرافيا  الفضاء في هاملت د .حميد محمد جواد  كان فضاءا متميزا بروحيته ودلالاته ورموزه  ومزاجه الجمالي هو. ‎والشئ المهم الذي تميز به عرض هاملت هو أن المخرج قام بحذف شبح والد هاملت الذي هو مفتاح وسر  هذه  الماساة وكشف غموضها ، حيث من خلاله فقط  يعرف هاملت وكذلك الجمهور بأن الملك مات مسموماً من قبل أخوه ، وبالرغم من خطورة  الغاء الشبح ، إلا أن د.حميد جواد قدم تبريره بكون عصر شكسبير كان يؤمن بالخرافات والأشباح مما لا يتناسب مع عقلانية عصرنا .‎وكحل إخراجي فإن المخرج جعل هاملت يرى شبح والده الملك المقتول في داخله،في بصيرته ، ووعيه ومكنونات روحه وأعماقها، فخلق ديالوجا بينه وبين الشبح الداخلي،السري الذي يوسوس في دواخل هاملت،كتحليل لما يراه من الفساد والعفن الذي حل في الدنمارك نتيجة لقتل الملك الحقيقي (والد هاملت) ‎وإغتصاب العرش من قبل الملك الجديد عم هاملت ، ولهذا فإن مثل هكذا معالجة لم يسبق لها مثيل إطلاقاً في اي عرض لهاملت الشكسبيري قدم في مسارح العالم .‎لقد كانت هنالك الكثير من الصعوبات التي واجهت انجاز هذه الإيقونه الشكسبيرية التي عملت على تحقيقها مجموعة من الفنانين بقيادة استاذهم (المخرج والمعد)الذين كانوا يعملون ليل نهار بروح  التضحية الغنية والطموحة من أجل تحقيق مثل هذا العرض المسرحي البصَريّ. فأضافة الى عدم امكانية ميزانية معهد الفنون الجميلة في تلبية الكثير من إحتياجات انجاز السينوغرافيا الفخم والذي فرض إعادة بناء خشبة المسرح حتى تتناسب مع كونها مدرج يهبط من عمق المسرح كساحة للقصر ويمتد الى منتصف قاعة المسرح حيث يقع على الجهة اليمنى الصليب الضخم الممتد على الارض وكأن هذه الكتل الطقوسية تسعى لتجد مكانتها في روح المشاهد ووعيه ، وبالتأكيد فإن هذا يشكل جزئية من فكرة العرض الأساسية التي تؤكد على علاقة الانسان بالموت وصراعة  من أجل حياة مملوءة بالنبل والطهارة في قصر بل دولة يشم فيها هاملت رائحة العفونة والفساد .‎وفوق أرضية الديكور الخشبية هنالك هيكل مهيمن يصل ارتفاعه الى السقف تتدلى منه كرة ترمز الى الكرة الارضية وترمز ايضا الى تفاحة آدم ، أو بمعنى آخر هي ثمرة الإثم.‎بالتأكيد أن مثل هذا التصور البصري في سينوغرافيا الفضاء  يحتاج الى جهود كبيرة وتدريب متواصل وصل الى إشهر عديدة ، إضافة الى إنسحاب  الممثلة الرئيسية أوفيليا قبل العرض مما حتم ضرورة البحث عن ممثلة جديدة وجهد جديد في التدريب على دور اوفيليا .‎لم أمثل في المسرحية إلا أنني تابعت إعدادها وإخراجها خطوة إثر أخرى ، لدرجة أنني حفظت المسرحية ظهرا على قلب.أن روحية د حميد كمخرج وفنان ومنهجية تفكيرة التي تؤكد على إشاعة المعرفة وإتقان الحصول عليها وخاصة بالنسبة الى طلبته منحتني رافداً معرفياً مهما في كيفة فهم الفن بل الحياة برمتها ، وهذا بالتاكيد أثر في مسار تفكري الفني ومنهجية إستيعاب المسرح كقدرة إبداعية مؤثرة ،كما أثر في مستقبل المسرح العراقي، وأيضاً في تكوين رؤى الجيل المسرحي الستيني. ‎وفي سنوات دراستي للمسرح في بلغاريا وبعدها  في سنوات الإغتراب الدنماركية كنت على اتصال تام مع استاذنا د.حميد محمد جواد  ومشاريعه السينمائية والمسرحية ، حيث حاول بعد سنوات من عرض هاملت تحقيق أفكاره الجديدة في إنجاز عمله الضخم التالي وهو إعداده"الإخوة كرامازوف" لدستويفسكي الذي كان أحد مشاريعه المسرحية المهمة وقد حلم بتحقيق هذا العرض في ساحة أكاديمية الفنون الجميلة، فنصب ديكوراً ضخماً  في الهواء الطلق،  كأنه هياكل خرافية . وكنت على علم بتفاصيل العمل قبل سفري من خلال  المناقشة والجدل حول كيفية تحقيق هذه الإيقونة ، وطبعاً كل هذا أثر في تشكيل تصوراتي الجمالية والمسرحية .‎ومن أجل تحقيق هذا العمل التف حوله جيل من الفنانين المبدعين طلبة أكاديمية الفنون الجميلة لتحقيق أفكار الجديدة المتمثلة في تفسيره الخاص للإخوة كرامازوف هذا العمل المعقد والمبني على الجوانب الفلسفية عن الحياة وتنوع النفس البشرية من خلال التأكيد على التصادمات  الكونية التي تبدو أبدية . ولكن  مع الاسف لم يرى العمل النور بسبب  بدء الحرب العراقية الإيرانية، والتفاف زملاء المهنة لقبر التجربة حيث اشاعوا بأن هذه الهياكل السينوغرافية في وسط ساحة الاكاديمية وفي الهواء الطلق ستقصف عندما يشاهدها الطيران الايراني . ‎استطاع د حميد  محمد  جواد الحصول على زمالة دراسية لدراسة السينما  في باريس  ، وأنجز اطروحته المهمة في السينما من جامعة  السوربون الأولى بعنوان (الرؤى الإخراجية والفكرية ــالسينمائية) والجانب العملي في الإطروحة هو دراسة وتحليل أفلام فلليني .‎الإطروحة بعد مناقشتها من قبل أهم العقول السينمائية في الجامعة نالت درجة "إمتياز"لعمقها ومنهج التحليل الذي يتميز به د  حميد وقد أدى هذا باعضاء لجنة المناقشة على إعتبارها إطروحة متفردة في موضوعها والتحليل المنهجي المتبصر.‎والآن يعيش د.حميد محمد جواد منعزلا بإرادته في منفاه الباريسي منقطعا عن الآخرين تماما،مبتعداً عن الكثير من الهموم والمشاكل الصغيرة منسجماً مع ذاته ومتوحداًً بغربته كفنان عراقي سرق زمنه الإبداعي لكنه استطاع أن يخلق زمنه المتفرد أنه زمن الفنان المبدع المتسامي بعيداً عن ترهات زمننا الحاضر.

المشـاهدات 47   تاريخ الإضافـة 24/03/2025   رقم المحتوى 60914
أضف تقييـم
loading