الجمعة 2025/5/9 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 33.95 مئويـة
نيوز بار
شقة مفروشة قصة قصيرة
شقة مفروشة قصة قصيرة
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

عادل دنو "*"

أستراليا/ سدني

 

مدينة مثلجة، كل أوربا في هذا الموسم تكسو الثلوج شوارعها بالكامل.. انعقد جبيني وقطبت عيني لأن كل شيء أبيض.. ورغم الجو القارس فاني حاولت أن اتنفس لأول مرة منذ أكثر من عشرين يوماً هواءً صافياً.. كانت قد امتلأت رئتاي بهواء عفن ملوث بشتى الملوثات.. مرة في شاحنة نقل الحيوانات مليئة بروث الماشية لم يتم تنظيفها ربما منذ أشهر عديدة.. ومرة في عربة قطار الشحن الخالية من النوافذ، ورائحة البول منتشرة فيها..

هكذا تم تهريبنا من بلد إلى آخر.. 

أخذنا شخصان إلى شقة في حي يكاد يخلو من الناس.. الشقة بسيطة قيل أنها مفروشة.. ولكن الأثاث الذي فيها قد أكل الدهر منه وشرب.. كأنها مصنوعة منذ قرن من الزمن.. ولكن قياساً بما عانيناه، فهذه الشقة تبدو كقصر واسع يحتوينا بلا مضايقتنا.. نشاهد سرير متهرئ ولكنه سرير نوم سيريحنا..

حذرنا أحدهما من مغادرة الشقة مهما حصل، وأكد أنه سيأتي لنا بالطعام ولم يزد حرفاً آخر..، أشار الآخر إلى أنه ترك مفتاحاً احتياطياً منبهاً بعدم استخدامه إطلاقاً إلاّ في الحالات الطارئة الضرورية القصوى..

نظرنا إلى بعضنا البعض.. متسائلين ما هي هذه الحالات؟.. وحين رأى أننا مستغربون من كلامه أضاف.

- للحذر فقط.. مثلاً حريق في العمارة.. أو أي حدث خطير يهدد حياتكم.. فقط.. فقط.. هل هذا واضح؟ 

غادرانا وأقفلا الباب من الخارج.. وسط هالة الحيرة والخوف التي وضعانا فيهما..

حاولت أن آخذ قسطاً من الراحة.. وبدأت أفكر... كيف تخلصت من كل هذه المغامرات التي تعرضتُ لها؟.. بعضها كان خطيراً جداً، لا بل أشرفنا أنا وآخرين على الموت.. ونجونا بأعجوبة.. قلتُ لنفسي... لم يتبق سوى القليل وأصبح حراً.. وأخذني خيالي الذي يبدع أحياناً في تصوير حالات مذهلة يجترح فيها بطولات جريئة في خضم تحديات قاسية.. يرسم بين جنحي الاطار تفاصيل مبهجة للزمن الآتي.. بعد رحلة لم أشهد مثلها سوى في الافلام البوليودية.

تصورتُ، وكم هو ساحر ذلك التصور، أنني سأستقر وأعمل، ويمكنني مساعدة أبي وأمي اللذين يختض قلباهما ألماً لفراقي.. ولا أعلم الآن ماذا يفعلان وبماذا يشعران بالضبط؟.. وأي حزن يتلبسهما؟.. حزن الالم والفراق، أم فرح معجون بالحزن لتخلصي من سجانّيْ بلدي..

ربما تسنح لي الفرصة أن أروي قصتنا، أو هذه الأحلام وأمنحها عنواناً مثيراً "طرق مجهولة نحو عوالم تكنولوجية مذهلة".. "قصتي الخيالية نحو المستقبل".. أو أي عنوان عريض مثير لشخص تسلق مراتب عليا في المجتمع الجديد..

أعيش في العاصمة.. والفرص في العاصمة أكبر من المدن الأخرى هكذا نسمع في العادة.. رغم اتسام التجربة بالغموض والضبابية.. ولكن رغم كل المصاعب والمحن فإنها تنتهي بالأفراح.. وتتجاوز مرارة الواقع.. لكن لا بأس، بما أنك في أرض الفرص السانحة.. بلد القصص الخيالية الرائعة التي تبهج النفس.. قصص أسطورية.. وأنا على بساطة خبرتي وحياتي والبلد الذي أتيت منه فإني ربما سأصبح بطل قصة أسطورية جديدة.. أية اسطورة.. وما الجديد فيها؟!! حياتي في الأصل كانت ولحد اليوم أسطورة.. وإلاّ ما كنت أفكر هكذا.. ربما كان صادقاً من قال: بدون أساطير لا يوجد ما نسميه حضارة.. أو قولاً بهذا المعنى..

قصتي تصبح أسطورة!.. لا هذا خيال جامح، بل هذا التفكير هو بحد ذاته أسطورة.. ها.. ها.. فليس لي قصة حب عشتها.. ولا أظهرت بطولة بين زملائي.. ولا صنعت حدثاً كبيراً.. ولم أقم بما هو خرافي.. وقصتي عادية لا تختلف عن قصة أي عامل بناء من الذين كنت أراهم في الساحة منتظرين فرصة من يستأجرهم لعمل ما.. وشخصيتي مثل باقي زملائي الطلاب الذين يهيمن عليهم الكسل.. والتقاعس أحياناً.. والروتين اليومي.

قرقرة بطني خضتني وكأنها تنبهني بحاجتها إلى طعام.. لكني ما زلت في هذا المكان ويبدو أني وهؤلاء المساكين الذين معي في الشقة بدأنا نشعر بالجوع.. والطعام لم يصل.. البرد أيضاً يصفع وجوهنا قليلاً.. ربما يزداد هذا البرد مع اقتراب الليل.. رغم أننا في ساعات ما بعد الظهر ولكن أجفاني ما عادت تطاوعني.. حاجتي إلى النوم شرعت تحاصرني وها اني أسبل أجفاني أو أنها ترتخي كلما شددتها وفتحت عيني على وسعهما.. وكلما فتحت عيني واسعتين أشاهد أُناساً نحيفين بانت عظامهم تحت جلودهم.. وأراهم وقد خارت قواهم.. أجلس على سجادة رقيقة بالية.. التعب الجسدي وعقلي الذي انغمس في صياغة الأحلام وذلك الجهد الفكري الذي كان بلا إرادتي.. كل هذا هدَّ قوتي ويحاول الآن سلب يقظتي..

 

*

 

طرقات قوية تكاد تهد الباب.. تنبهت رغم نحولي.. هذه الضربات قوية جداً.. ربما ضاق الطارق صبراً.. لقد حاول أكثر من مرة ولم يسمع جواباً.. تساءلت: ماذا يحدث..؟

واحد من رفاقنا المغامرين المحاصرين في هذه الشقة.. أشار بيده.

- ربما جاؤا بالطعام..!

أشرت له مع انتباهي على تحريك شفاهي عاصراً إياهما لئلا يصدران أي صوت..

- يمتلكون المفتاح..!

ضرب صاحبي يده على رأسه ناقماً... انه لم يفكر بهذا.

وقال آخر.

- ربما مصيبة..!؟

إنحشرنا في زاوية.. نؤكد لبعضنا ألا نصدر أي صوت..

تقدم الأول وقرَّب أذنيه من الباب يتنصت..

ابتسمت بمرارة.. وقلت هامسا للذين معي في الزاوية.

- ألعله يفهم ما يقال في الخارج..!؟ 

تزداد الضربات قوة.. وعلا صراخ من خلف الباب يشبه تنبيهاً لم ندرك كنهه..

وبسط صاحبنا الأول جسده وذهب لالتقاط المفتاح.. وفتح الباب وتجمد في مكانه.

-  الجيران يسمعون أصواتاً في الشقة، ولكنهم لا يرون أحداً يخرج أو يدخل إليها..

قال الشرطي.

فزعنا ولم تعد فينا دماء تجري في عروقنا.. التصقنا بالجدار.. 

قال أحدهم. 

-  مرحباً..

- ....

- نحن من الشرطة.. وصلتنا شكوى بخصوص الشقة.. هل لنا أن نعرف من أنتم وكم عدد أفراد العائلة هنا..

- ....

- لماذا لا تجيب؟.. هل فهمت..؟

- ....

- هل أنت من البلد؟.. أية لغة تتكلم..؟

- ....

التفت إلى زميله وتكلم جملة واحدة فقط.. وإذا بثلاثة من أفراد الشرطة يندفعون إلى داخل الشقة ويدفعون صديقي الذي أخرسه الحدث والذي اندفع لفتح الباب..

كان جائعاً وينتظر المهرّب الخبيث أن يأتينا بالطعام..

سمعنا صوتاً لرجل وهو يدخل من الباب وسط رجال الشرطة وهو يقول بالعربية>

- لاجئون.. مُهَربون..؟  

اصفرّت وجوهنا وخرسنا جميعاً، وخرست أ... حـ... ل... م... ن...ا.

 

*

 

 

 

 

  "*": قاص وروائي عراقي، له العديد الاصدارات في: القصة القصيرة، الرواية، أدب الطفل، النقد،... وبحوث لغوية سريانية.

المشـاهدات 54   تاريخ الإضافـة 22/04/2025   رقم المحتوى 61980
أضف تقييـم