السبت 2025/4/26 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
السماء صافية
بغداد 32.95 مئويـة
نيوز بار
من شيء ميرزا إلى أشياء عالية ” قراءة في ” عرس فينيكس ” لـ عالية ميرزا
من شيء ميرزا إلى أشياء عالية ” قراءة في ” عرس فينيكس ” لـ عالية ميرزا
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

قراءة في كتاب

إبراهيم محمود *

الجزء الثاني .

.

عاشت عالية عمراً، ولعلها تصارع العمر المتبقي بناء على قانون الطبيعة: الحياة، سوى أن فينيكسها الشعر، وهي متوحدة معه، يعدها بما يجعل عمرها المنصرم في وقدته، أكثر منة كونه عمر كائن بين ولادة ووفاة زمنيتي. الشعر هو الوعد الدائم بأن هناك ما يستحق الانتظار. ليس انتظار غودو هو المزكَّى، إنما انتظار الوعد الشعر هو الخصوبة المستمرة في الروح على قدر معاناتها، وأهليتها لأن تحيل الكوكبي إليها، لأن تكون البشرية جمعاء، الحياة جمعاً ومفرداً، سراً وعلانية، في صوفية عابرة لعموم الجسد:

في حياتي القادمة سأختار كوكباً آخر، كوكباً لا جاذبية لأرضه، كي لا أضطر لحماية رأسي من سقوط التفاح عليه، كوكباً لا يحتاج قاطنوه إلى لغة، كوكباً يكون الرقص فيه أداة تعبير بين ساكنيها، أحمل مثل الغجر يومي على كفي لأجوب البراري، أعطر جسمي بعطر الخزامى كي يتعلق بذاكرة خلايا الشم لدى حبيبي الفوضوي…ص86.

إنها هلوسة حقاً، لكنها الهلوسة التي تبث في الجسد القوة التي تتطلب وقتاً أو بعضاً منه، ليستعيد ما منشود من قبله. وعالية لا تريد المستقبل، إلا لأن ما كان لا يستحق التسمية بما أنها مثقلة بطلبات شهريار الطاغية، ومكابدات شهرزاد الأسيرة الجنسية لدى نموذج الذكورة في ليليها ونهاريها، فالهلوسة هزة عصبية احتجاجاً على خلل بنيوي جار وفاعل في مضمار الجسد ونوعه.

عالية تتوق إلبرّية، رغبة في الانعتاق من جبروت البرّية، وضغائنها المخضرمة التي تسمي الذكر مكرّر تعويذته: الذكر هو الأصل.

الحياة القادمة، يتعدها أسلوب مختلف كل الاختلاف في الكتاب، انقلاب الشاطئ على بحره، لأنه لم يعد نفاياته المرمية والمتشكلة فيه.

وللتفاح لوغوه الميثولوجي، الديني، التوراتي المعمم على ما هو مسيحي” المسيح رأس الكنيسة ، والرجل منطقياً هنا ” رأس المرأة “، وعلى ما هو إسلامي في صيت ” الضلع الأعوج ” وأدبياته الكبرى، التفاح مقدّم شهادة على براءته مما يُلحَق به من وزْر، إنه شهي، طعام مغذ، خفيف على المعدة، لكن توليفه جعله مسموماً، وحواء موجدته، كأن اكتشافها كان بمثابة الشعر الذي يطاق. يكون الغجري نفسه منسلخاً عما يصله بالمكان الحدودي، كأن الإقامة إيعاز بمباشرة التنكيل في الجسد المثقل بالشبهات، جسد المرأة. لهذا تمارس سرديتها اللامتناهية في قائمة أشيائها التي تتجدد بأسمائها اللامتناهية، طلباً للمزيد والاستزادة، إكسيرها المتخيل !.

تسعى عالية ما وسعها الجهد إلى تكلّم الكتابة في عنصريها: الشعر والنثر، لغتها، صوتها، بوحها، مشتهاها في الكينونة، ثمة استعادة لخاصية اللغة الميثولوجية، حيث نعيش كائن” ثنائي الفلقة” كما هو الكائن الموضوع المحوري لأفلاطون في روعته” المأدبة، أي ذكر وامرأة متحدان مع بعضهما، ينعدم الحنين هنا، فهما معاً، ويبقى الحنين ممن يريد التعرف على عالمهما من الداخل، وما في ذلك من إشهار بالخلود، والأبدية فكان فصلهما عن بعضهما، هوذا الشعر يقوم على كائن مركَّب، من أراد قول الشعر فليكن ذلك الكائن. يا لها من مهمة عسيرة وخطيرة، ذلك من استحقاق الشعر. لولا هذا الحضور الجنسي المركَّب في بدعتي هوميروس: الإلياذة والأوذيسة، لما كان لهوميروس هذا الامتياز في الأبدية، ربما كان ثنائي الجنس؟ إن عظمة الملحمتين تتمثلان في خصوبة الجمال الأنثوي.

هوذا الشعر الذي يتنكر لاسمه، لأنه يطالب بالمزيد، الطفل الشعر، بكامل براءته، ولفت النظر والسمع إليه، لكنه الطفل الرضيع الذي يحتفظ بأوزار الكبار وفظائع أعمالهم، ومن يعيش بدعة الشعر يعيش هذا الحضور الديمومي لطفل عجائبي كهذا.

كما لو أن عالية تسمي أشياءها، وتستزيد شعوراً منها أن الإصابة بعدوى الشعر ميزة لا تُمنح لأي كان، وهي في وضعها الصعب، وسؤالها المستمر عما يكون الأصل، أو ما يطيح بهذه الثنائية الفاتكة: الذكورة والأنوثة، والتراتبية الفاسدة المفسدة فيهما.

اللوذ بالعلْم

لا تدخر عالية جهداً في اقتفاء كل أثر، نأمة، هسيس، أو رسيس، أو نبض عشبة حالمة، ليكون للشعر ما يستحقه، ما نهِب منه.

حالها مع العلم، وما في العلم نفسه من تاريخ قدّم كثيراً باسم الملتحي أو الذكر المتباهي والفخور بكونه من صلب آدم” :

العلم أثبت أن الإنسان يتكون من عملية الإخصاب، الذي يقوم على حيويين الرجل وبويضة المرأة، عن طريق الممارسة الجنسية، أو مؤخراً الزرع المسمى أطفال الأنابيب، أما غير ذلك من عمليات النفخ في الفم لتكوين الجنين لا يتقبلها عقلي الصغير. ص97 .

خبر مسرود، أو تقرير، سوى أنه في سياق الكتابة وعالمه المتعدي للشعري والنثري تمايزاً، يطيح بأحادية العالم، لا يعود الشيء هو نفسه، هو ما ليس هو، والخبر إقرار بحقيقة مؤجلة أو مؤجَّرة في حساب القيّم على المرأة، حتى في نزع العلمي على العلم.

ولعل صلاتها بالعالم الخارجي، وبالأنشطة الحياتية،وبالميول، وبالمطالعة أكسبتها معرفة متشعبة بحقيقتها النفسية، الرياضة وغيرها لم تقربها من نفسها، وحدها المطالعة، التي تسمح لروحها أن تعانق مجهولها: أدخلتني المطالعة إلى عوالم الخيال أستنبط منه أجوائي الخاصة، وأُسكنها بمن تخلقهم خيالاتي تلك بعيداً عن الواقع الذي كان حتى قصص حب المراهقة عندي كانت خيالية أكثر من كونها قصصاً واقعية استوحيتها من الكتب والأفلام..ص101 .

تبحث عن ممرات آمنة لروحها، لأفق هو شرفتها على عالم الرغبات المشروعة والمحظورة، عالم احتضانها لروحها، وليس مكابدتها لخاصية الفطام القسرية والموجعة، ثمة القيثارة التي تعبرها بصوتها عالياً، بعنوان ” قيثارتي ” وما للتنسيب الذاتي من مكاشفة :

أشعر بقلق روحك وهو يحوم حولي، يبسط هالته ليضمني تحت جناحيه عند لحظات الأحزان والانكسارات، التي تفرد ظلها الندي لتنعش القلب في تلك اللحظات التي يقف فيها الهواء من حولي حانقاً راكداً. ص 115 .

الشعر خاصية قيثارية، لأنها تجمع بين الصوت النابع من الروح، والقيثارة القادرة على الدفع بأوتارها إلى أن تطرب للصوت، وقد وجدت طريقها عبر الأصابع والشعور بحميمية الحالة، لا تعود القيثارة إلا مترجمة موسيقية إلى الآخرين.

كانت الكلمة في أصلها صوتاً. هوذا بيت القصيد، هوذا اللاتجنيس الذي يجيز للكون في مجموعه أن يطرب في ذاته. إنها حيادية الشيء الذي يتدفق بمعانيه بعيداً عن الأسماء التي تُسقَط عليها، إنها استمرارية إعادة البحث عن مفقود لا يعرَف متى وأين وكيف، لكنه يرن بصوته، بكينونته اللامرئية أنّى التفت المأخوذ بعشقه المائز، وعاليا تترجم حيرتها، سيرتها نفسها إلى اللامجنس انتقاماً من مجنسه المزعوم والمفروض على الطبيعة، وما جرى تطويبه.

في ما يشبه المناجاة من مكان عميق إلى أعالي جهات جغرافية، تنشىء جغرافيتها البشرية، في ” عبق مدن معشعشة في خلايا الذاكرة ” إنها تحملها في ذاكرتها، وهي متاخمة لروحها، وربما كانت روحها لوحها المحفوظ طي ذاكرتها :

للمدن حكايات، منها ما تبني بيوت العناكب في الذاكرة، وتعكس خيوطها الضوء المسلط عليها لتكسرها مثل الموشور في الذاكرة كلما مرت على مخيلتها..

هناك أيضاً مدن تبقى مجرد محطات نمر عليها في رحلة الاغتراب والغضب من الوطن..

نعم، هكذا هي المدن، ذكراها تتمازج مع رائحة توابلها، عطر نسائها، رائحة الخبز في أفرانها صباحاً، أو رائحة ملح البحر الذي يقتحم أنفك، وينعش مجاري التنفس فيها..

سأبدأ رحلة ذكرياتي معك أنت يا بغداد، يا نخلة في البال، يا عبث البنفسج ورائحة الهيل الهاربة من قعر الهاون..

يا فوضى المدن وصخبها، يا كل فصول مراهقتي، وشغفي المتمرد..

كتبت عن باريس لأن السفر إليها دخل ضمن الخطة العلاجية التي أوصتني بها المعالجة النفسية التي أشرفت على علاجي بعد الحادث..

وعن لندن: أروقة تعكس لون الغسق بهدوء يدخل الروح حالة من الثمالة العذبة..

شكراً لك يا عاصمة الضباب وشبكات مترو الأنفاق، لأنني في وسط فوضاك اهتديت إلى واحة سكنتها روحي في تلك اللحظات التي سرقتها، والتي منحتني سحر الانفلات من ضبابك وفوضاك..ص153 .

إنها مدنها المختارة، وليست مدنها القابعة والمدثرة بخرائطها، وألوان حياتها اليومية، فلها مسالك مختلفة في الحياة، فيها من الشعر ما ليس متوافراً في الشعر لعدم صحة تسميته شعراً، لأن ذواقيه مختلفون، وفيه من الكتابة الأدبية عينها، ما يجفل اللسان من تهجئة- ولو- كلمة منها، ليس لفلتان المعنى فيها، وإنما لأن لها طرائقها في التعبير ولاحدوديتها في النظر آفاقاً وأعماقاً.

وبين مسافة” يتقرح ” طرفاها من الاحتكاك والتباغض في أمكنة عاشتها في مناطق تتكلم لغتها وأبعد، ومسافة تتفتح على المحال لمن يوهَب وهجه وقدرته للاقتراب منه، والعيش على منواله، طليقاً حريقاً يشتعل ويضيء ماسة روحه أكثر.

دون ذلك ربما يستحيل الإقامة في حاضرة ” عرس فينيكس ” ليس للفرجة، وإنما للنظر ولو عن بعد. فقارىء عرس فينيكس عاليا ميرزا، لا يجاز له رفع الكتاب دون قراءته، وقراءته دون الشعور برقص الأصابع في غمرة وهج تردد صدى أوتار قيثارتها..

أتراني بالغتُ قراءتي هذه؟ لا أطلب تعليقاً من أحد، إنني نفسي أسائل نفسي، جهة التواصل مع امرأة لم ألتق بها أبداً ولو عن بعد، سوى أن كتابتها، ولأنني مأهول بهذا الحنين الميثولوجي المعتق وحده إلى المنزوع عنها والمعتَّم عليها حال المرأة، ومدمن الكتابة عن بنات جنسها، بأفضل معنى للعبارة، أعطي لنفسي مثل هذا التفويض المفتوح لأن تقرأها وهي مطمئنة، دون إعلان أي حداد لذكَرها التالف روحاً أصلاً.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مفكر وناقد كردي سوري مغترب

المشـاهدات 29   تاريخ الإضافـة 25/04/2025   رقم المحتوى 62095
أضف تقييـم