الثلاثاء 2025/5/13 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
السماء صافية
بغداد 36.76 مئويـة
نيوز بار
الفانوس.. الإِنسان في اغترابه وصلابة روحه
الفانوس.. الإِنسان في اغترابه وصلابة روحه
مسرح
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

أنور محمد

 

وَإِنْ ذَهبتْ جوائزُ مهرجان الفجيرة الدولي للمونودراما - الدورة الحادية عشرة، 2025 - إلى عرض "قطار ميديا" من إسبانيا: المركز الأوَّل، وعرض "عمق ضحل" من ألمانيا: المركز الثاني، وعرض "مستطيل" من إيران: المركز الثالث، وجائزة أفضل مُمثِّل مونودراما إلى أسامة كوشكار عن عرض "وحدي" من تونس، إلاَّ أنَّ هناك عروضًا لا تقلُّ أهميةً فنيًا وفكريًا في سعيها لأنسنة الوحش الذي هو الإنسان، مثل مسرحية "الفانوس" من دولة الإمارات، كتابة محمد سعيد الضنحاني، تمثيل عبد الله التركماني، إخراج د. خالد أمين، التي شاهدناها في بثٍّ مباشر، كونها كانت عرضًا مسرحيًا من حماسة، وإِنْ لَمْ تذهبْ إلى النهاية الفجائعية. فالمُمثِّل ومع التمهيد الموسيقي - كانت الموسيقى شخصيةً مؤثِّرة وهي تنشر فعل الترقب والخوف والحذر، لم تكن زينةً ولا وسيطًا، بل كانت كيانًا نغميًا فاعلًا- يُفصحُ عن ذاته: أنا هُنا. كمن يكتشفُ أنَّ أَنَاهُ لَمْ تَكُنْ أَنَاهْ؛ أحدٌ ما سَلَبَهُ إِيَّاها. أنا ليسَت الآخر؛ بل هي أنا السيفُ الخائفُ من حدِّه: "أنا هُنا لا تكشفوا أسراري، لا تفضحوا أوراقي، أنا هُنا ما زلتُ قادرًا على التنفس، مؤامرة دنيئة من أجل موتي". وكأنَّه كمن ارتكبَ جرائم/ خيانات.المُمثِّلُ، وبين لحظتيْ الخوف والشجاعة، أرانا أفكاره ومشاعره تجاه حالة البؤس والاغتراب الذي يعيشه الإنسان المعاصر- هنا المُمثِّل عبد الله التركماني أرانا كيف يُقسِّم ويُوزِّع وينشر الفعل التراجيدي على زمن العرض المسرحي: 36 د، بإيقاعاتٍ صحيحة وعميقة. لقد شاهدنا العسف والاستبداد، وكيف كانت أحاسيسه تضيق بهما عندما يجوران عليه؛ على الإنسان، وهو يعودُ إلى طفولته شاكيًا بؤسه إلى أمِّه– وجه تعبيري؛ كتلة صمَّاء من كرتون وقماش: "أمي أنا بردان، أمي ردِّي علي، كل شيء إلى زوال، أمي أنا بردان". إذ استطاع أن يُحوِّل هذا الشكل التعبيري الذي هو أمُّه كما فانوسه إلى جسدٍ مُتحرِّك، وهو يتحاور معه- ذكَّرنا بمسرح الظل - كراكوز وعيواظ، فمنحه حياة.المُمثِّل عبد الله أظهر في هذا العرض قدرته على التحكُّم بالجسد- جسد المُمثِّل في توتراته وانقلاباته النفسية والروحية في الأدوار التي أدَّاها:" كُنَّا أربعة؛ أنا وأمي وأبي والفانوس". فشكَّلوا معًا فعلًا؛ صراعًا من (أنا خالقة)، أنا المُمثِّل، فحوَّل الجسدَ جَسَدَهُ بأدواره التي أدَّاها إلى أداة فكرية؛ وبأداء قاس. ففي حَمْلِه لأُمِّهِ وهو يُخاطبها مُعاتبًا/ مُعترفًا؛ كان يؤنِّثُها ويُذَكِّرُ حاله في التنقُّل ما بين الصوتين؛ صوتُه وصوتُ أُمِّهِ، وكأنَّ الشكل التعبيري (الكاراكتر) الذي في يده، بين يديه يتنقَّل وينقلُه، صار له وجودٌ جسدي، وقد أعطاه في أدائه معنى جديدًا، ففَرَضَ علينا أن نُصغي وأن ننظُر- نتفرَّج على الجسد ونسمع ثغاءه.الممثِّل التركماني لم يكن يُترجِم مقول جَسَدَ أُمِّهِ، ولا يتمازجُ بجسدِه مع جَسَدِها- لكأنَّها أُمُّهُ حقيقةً وَقَدْ هَرِمَتْ، وهَا هُوَ يحملُها بين يديه كما حملَته وهو طفل. مشهدٌ مَزَجَ فيه اللغة/ الملفوظ الشفوي الذي كَتَبَه المؤلِّف محمد سعيد الضنحاني مع الفعل، مع السلوك التمثيلي الذي فَرَضَهُ المُخرج خالد أمين ضمن سياقٍ تركيبي حَرَكي على الخشبة، فصارت اللغة/ الملفوظ أداةً مُفجِّرة للانفعالات، ومُسيطِرة ومُوحِّدة للفعل الذي كان مُشتَّتًا لتحقيق ذروةٍ مسرحية، فرأينا ضعف وقوَّة (الولَد- المُمثِّل) والصدوع النفسية والقهر الذي يعانيه وهو يحملُ اُمَّه، ما كشَفَ صدقَ العواطف الأخلاقية بينه وبينها.المسرحية تريدُنا أن نتخلىَّ عن وحشيتنا، وأنْ لا نخضع لنزواتنا، فنتحوَّل إلى مستبدين خطرين- نلاحظ أنَّ المُمَثِّل في دوره وهو يُحملُ أُمَّه كان كمَنْ يكسرُ القِشَّة بين الوهم- الفن، وبين الواقع. حتى وهو يتعامل مع الشكل التعبيري لأمِّه، كان يتعامل معه كفانوس يُمثل الضمير، سنرى أنَّه لم تفارقه ثيمة الطفل؛ بقي طفلًا، رغم الإحساس بالقتل، قتل الضمير، أو تصفيته. لأنَّه منذ البداية في المشهد الأوَّل نراه يُضحِّي به، ليقوم على طول الزمن المسرحي باسترداده، ذلك في ردِّه على الهاتف عندما رنَّ جرسه إذ بدا مُجبرًا على تنفيذ أوامر رؤسائه: "هلا هَلا بو وائل، اطمئن، اعتبر وَلَدَك موظَّفًا عندي بالإدارة، وراتبه في أعلى السُلَّم الوظيفي". كأنَّ الشرَّ هو قانون العمل، فيبقى طول العرض وهو يواجه فاجعته، وهذا ما عمَّق شعوره بالألم- لا أحداث متدفِّقة، ولكن مشاعر وأحاسيس/ أفكار، فيُرينا التركماني لعبة سيكولوجية في وقفات مُثيرة ومؤثِّرة.فلقد ذهب أبواه، أو: "لقد ذهبوا، ولم يبقَ إلاَّ أنا وأنت – أي الفانوس أو الشكل التعبيري من كرتون وقماش – يا رفيقي لا تتخلَّى عَنِّي، أنا وأنتَ توأم". توأم فيُرسل إنْ في حركات جسده أو إلقائه الذي كان متناغمًا؛ إشارات/ تلميحات/ إيحاءات بعيدًا عن العاطفية الرومانسية كما جاء في بعض العروض المُشاركة في المهرجان حرصًا- بالتأكيد لأنَّها رؤية المُخرج خالد أمين- أن يكون أداءه أكثر واقعية من الناحية النفسية.خالد أمين ومحمد سعيد الضنحاني في مونودراما "الفانوس" أظهرا لنا من خلال أداء المُمثِّل عبد الله التركماني العالمَ الداخلي للإنسان في اغترابه في هذه الحياة وصلابة رُوحِه التي لَمْ تَنكسِر، إذ وضعنا المُمثِّل بل صَدَمَنا وهو يخاطب الفانوس/الضمير في آخر العرض:" نَمْ يا فانوس، نَمْ يا صديقي، نَمْ يا أخي الطيِّب، نَمْ قرير العين فقد أعطيتَ وَوَفيَّتْ".

 

المشـاهدات 45   تاريخ الإضافـة 12/05/2025   رقم المحتوى 62813
أضف تقييـم