
![]() |
التحليل الأدبي لرحلة استكشاف "القبيلة الغامضة في جزر أندمان" لعبد المنعم الديراوي |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص :
حمدي العطار *المقدمة لطالما شكّلت أدب الرحلة نافذة مشرعة على العوالم المجهولة، حيث يسعى الرحّالة إلى كشف خفايا أماكن لم تطأها أقدام الكثيرين، وتوثيق تفاصيلها بحسّ المغامرة وروح الاستكشاف. في كتابه" القبيلة الغامضة في جزر أندمان"، يقدّم الرحالة العراقي" عبد المنعم الديراوي" تجربة استكشافية فريدة من نوعها، حيث يمزج بين السرد التقريري والتحليل الموضوعي، متتبعًا رحلته نحو قبيلة "جاراوا"، التي بقيت بعيدة عن التأثيرات الحضارية الحديثة. يعكس هذا العمل الأدبي شغف الديراوي بالمغامرة، ورغبته في فهم الشعوب البدائية وتوثيق أسلوب حياتها، وهو ما يجعل كتابه إضافة متميزة لأدب الرحلات العربي. *أسلوب السرد وتوظيف الأدب في الرحلة يتأثر أسلوب السرد في الكتاب بخلفية الديراوي الصحفية، حيث يستخدم مزيجًا من السرد التقريري والذاتي، معززًا ذلك بالحكايات الواقعية والقصص العجائبية لإضفاء طابع مشوّق على النص. يبدأ الكاتب رحلته بتمهيد جذاب يحيط القارئ بأجواء الاستكشاف، مشيرًا إلى قلة المعلومات المتوفرة عن قبيلة "جاراوا"، مما يرفع من عنصر التشويق. فهو الرحالة العربي الوحيد الذي قرر خوض هذه المغامرة، وهو ما يضفي على الرحلة طابع التحدي والتميز. يحرص الديراوي على إطلاع القارئ على معلومات مثيرة حول سكان الجزر، فيصفهم قائلًا: "كانت المفاجأة السارة لي كوني متلهفًا للاطلاع على عادات وتقاليد الشعوب. المفاجأة هي أن سكان جزر أندمان الأصليين لا زالوا يعيشون حياة بدائية، وشبه عراة، ويسكنون في غابات بعض الجزر. ولكن يميلون للعنف ضد الغرباء." (ص12) يبرز الكاتب هنا انبهاره بالمشهد البدائي للحياة في الجزر، مع تسليط الضوء على التحديات التي قد تواجهه في رحلته. كما يؤكد أن الرحالة الحقيقي هو من يسبق الآخرين إلى المناطق الغامضة ليسجل ملاحظاته، ويفتح آفاق المعرفة أمام المهتمين. *اختيار الرفيق في الرحلة لم يتمكن الديراوي من إقناع أي صديق بمرافقته إلى هذه الجزيرة النائية، بل واجه محاولات لتثبيط عزيمته. لكنه وجد ضالته في الهند، حيث التقى بـ"محمد"، الذي سبق له التعرف عليه في رحلة سابقة. وافق محمد على مرافقته مقابل التكفل بمصاريف الرحلة وأتعابه، مما يسلط الضوء على التحديات التي يواجهها الرحالة عند الإعداد لمغامرات استكشافية من هذا النوع. *توظيف الحكايات والأساطير يتخلل السرد العديد من الحكايات والأساطير التي تعزز البعد الثقافي للنص. في مدينة "بنكلور"، يروي الكاتب أسطورة هندوسية عن الإله "كانيش"، والتي تكشف عن معتقدات دينية هندية غريبة: "كان لشخص ثري ابن اسمه كانيش، وفي أحد الأيام نشب خلاف بينه وبين أحد الأشخاص، وانتهى بقطع رأسه. وعندما علمت والدته بذلك، طلبت من زوجها إعادته إلى الحياة، فأمر أتباعه بجلب رأس أول حيوان يجدونه، فجلبوا رأس فيل، وتم وضعه مكان رأس كانيش، ليحيا من جديد برأس فيل ويصبح مقدسًا." (ص18) كما يروي المؤلف قصة واقعية عن رفيقه محمد، الذي انتقل من راعي أغنام فقير إلى دليل سياحي ومترجم، بفضل لقاء صدفة مع رجل عربي في بومباي. مثل هذه القصص تضيف عمقًا إنسانيًا إلى الرحلة، وتكسر رتابة السرد بتفاصيل مشوقة. *الهبوط في جزيرة أندمان وزيارة السجن البريطاني بعد هبوط الطائرة في أندمان، يصف الديراوي الطبيعة الفريدة لهذه الجزر، التي تشكلت بفعل البراكين قبل 60 ألف سنة. كما يتطرق إلى "سجن سيلولار"، الذي شيدته بريطانيا خلال استعمارها للهند، وكان مركزًا لتعذيب السجناء وإجبارهم على إنتاج زيت جوز الهند. يصف الكاتب تجربته داخل الزنزانات ومنصة الإعدام، مشيرًا إلى أن رغم التحسينات التي طرأت عليه، إلا أن المكان لا يزال يحمل طابعًا مرعبًا ومقززًا. *لقاء قبيلة "جاراوا" والغموض المحيط بها تفرض الحكومة الهندية قيودًا صارمة على زيارة مناطق قبيلة "جاراوا"، وتشدد على عدم التقاط الصور أو تقديم المساعدات لهم، مما يعزز شعور العزلة المفروضة على القبيلة. يصف الكاتب لقاءه بالسكان الأصليين قائلًا: "لم أشاهد بيوتًا للجاراوا، وإنما بعض أغصان وأوراق الأشجار وضعت بفوضوية لتقيهم من الأمطار. أما أشعة الشمس فلم تصلهم لكثافة الأشجار." يطرح الديراوي تساؤلات أخلاقية حول سياسات الحكومة الهندية تجاه هذه القبيلة، مشبهًا الأمر بحديقة حيوانات واسعة يتم استغلالها لجذب السياح، مما يجعله يشعر بالأسى على واقعهم البائس. *استخدام عنصر الحوار لكشف الحقائق لإزالة الغموض عن القبيلة، يدخل الديراوي في حوار مع مسؤول سياحي حول نمط حياة الجاراوا، ليكتشف أنهم يعيشون على الصيد والمقايضة، وأحيانًا يستبدلون صيدهم بالخمور! كما يزور متحفًا مخصصًا للقبيلة، لكنه يخرج منه بشكوك حول حقيقة أصول الجاراوا، حيث لا توجد معلومات تاريخية دقيقة عنهم، مما يجعله يعتقد أن الحكومة الهندية تخفي بعض الحقائق بهدف تعزيز السياحة. الخاتمة تمثل رحلة الديراوي إلى قبيلة "جاراوا" تجربة استكشافية فريدة تمزج بين المغامرة والتحليل الثقافي. فمن خلال السرد المشوق وتوظيف الحكايات، يقدم لنا الكاتب رؤية متعمقة حول الشعوب البدائية، مع تسليط الضوء على القضايا الأخلاقية المتعلقة بحفظ تراثهم وعزلهم عن الحضارة. إن هذا العمل الأدبي ليس مجرد وصف لرحلة، بل هو توثيق لمجتمع يعيش على هامش الزمن، يثير التساؤلات حول الهوية الإنسانية، والعلاقة بين التقدم والحفاظ على الأصالة. |
المشـاهدات 26 تاريخ الإضافـة 14/05/2025 رقم المحتوى 62883 |