الأحد 2025/6/1 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 38.95 مئويـة
نيوز بار
ما بعد الحداثة والميتاسرد في "الإبحار إلى كالكوتا" للروائي والرحالة حسن البحار
ما بعد الحداثة والميتاسرد في "الإبحار إلى كالكوتا" للروائي والرحالة حسن البحار
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

حمدي العطار

 

في ظل التحولات الكبرى التي طرأت على السرد العربي المعاصر، تتجلى رواية الإبحار إلى كالكوتا للروائي الراحل حسن البحار كعملٍ ينهل من تقنيات ما بعد الحداثة ويغوص في عالم الميتاسرد، ليمنح المتلقي تجربة قرائية معقدة ومتعددة الطبقات. إذ لا تكتفي الرواية بسرد وقائع رحلة بحرية، بل تمارس لعبتها السردية على حافة الوهم والواقع، وتدع القارئ في تساؤل دائم: أين تنتهي الحقيقة؟ وأين تبدأ المتخيلات الروائية؟

*توظيف الميتا سرد

يُمارس البحار في هذه الرواية تشكيكًا متعمّدًا في حقيقة النص، من خلال توظيف أسلوب الميتاسرد والإشارة إلى البنية التخيلية للنص ذاته. فالشخصية "كامي بير" مثلًا، يقدَّم بوصفه وهمًا روائيًا، حيث يعترف السارد قائلًا: "كامي بير ليس  حقيقي، والحوار الذي دار بيننا هو من خيالي الحقيقي فقط"، وهنا يتجلى وعي الراوي بتقنيته السردية، ليعلن صراحةً عن لعبته التخيلية.

ويُعزز هذا التوجّه الميتاسردي ظهور المحقق "كاج مايلم"، الذي يؤيد أن يُحوَّل التحقيق في حادثة غرق السفينة إلى رواية، فيكتب اسم الرواية "كالكوتا" في منتصف الصفحة، ويبدأ نصًا سرديًا جديدًا: "أنا المحقق البحري كاج مايلم وصلت إلى الهند بتكليف من الشركة العالمية للتأمين البحري..."، لتبدأ رحلة سرد ضمن سرد، وتتناوب الأصوات في بناء الحكاية، بحيث تصبح الرواية نصًا عن رواية قيد التكوين. كما أن أقوال المحقق تظهر بخط مائل، مما يعزز التعدد السردي ويضيف مستوى جديدًا من التأمل في بناء النص.

وفي لحظة مفصلية، يسأل السارد المحقق إن كان يوافق على تحويل الحكاية إلى رواية، فيرد الأخير: "سنكتبها... أتعرف نحن نغرق لا نموت". هنا نكون أمام مشهد رمزي بالغ الدلالة، إذ تصبح الكتابة أداة نجاة، ويغدو الغرق بداية لولادة نصٍ جديد.

أما على مستوى المكان، فإن الرواية تتنقل بين البصرة وإسطنبول وكالكوتا، ولكنها لا تكتفي بوصف الأماكن، بل تبث في تفاصيلها حيويةً وانفعالات إنسانية تنأى عن التقرير والجمود. حين يكتب السارد عن إسطنبول، لا يقدّمها كخلفية سياحية، بل يملأها بالحياة والرمز، كما في حديثه عن جسر غلطة، أو في وصفه لحظة وقوفه بين قارتي آسيا وأوروبا: "وسط الجسر وقفت، استقبلني البحر برائحته المنعشة... أبتسمت كنت قد وقفت بين قارتين". هكذا يضفي الكاتب على المكان بعدًا وجوديًا يتجاوز الإطار الجغرافي.

وتبرز أيضًا إشارات إيحائية حسية وعاطفية، كما في قول إحدى الشخصيات: "بعض النساء المغريات عابرات الاحتمالات، وحين تكون أنت من الاحتمالات لا يبقى معك غير الندم"، وهي جملة تُعبّر عن هشاشة العلاقات وعبثية الوجود، وهو ما يتماشى مع فلسفة ما بعد الحداثة التي تتبناها الرواية.

خاتمة:

في الإبحار إلى كالكوتا، لا يكتفي حسن البحار بصياغة رواية بحرية أو سيرة رحلة، بل يبني نصًا سرديًا معقّدًا، يتكئ على مفاهيم ما بعد الحداثة والميتاسرد، ويجرّ القارئ إلى لعبة سردية ذكية، تستفز الإدراك وتختبر الحدود بين الحقيقة والوهم. إنها رواية تكتب ذاتها وهي تتقدّم، وتُخفي ما تكشف، وتدعو القارئ ليبحر لا في البحر فقط، بل في المعنى ذاته.

المشـاهدات 225   تاريخ الإضافـة 17/05/2025   رقم المحتوى 62990
أضف تقييـم