الخميس 2025/7/3 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 37.95 مئويـة
نيوز بار
بلند الحيدري بين التمرد و السياسة والشعر!!
بلند الحيدري بين التمرد و السياسة والشعر!!
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

 

اشارات تشخيصية/شوقي كريم حسن

 

بلند الحيدري، الشاعر الذي انتمى للتمرد دون أن يكون ماركسيًا، وعاش في زمن التبشير بالقومية دون أن يكون قوميًّا، وبقي في منفى اختياره السياسي والفكري حتى هجرته الأخيرة إلى المنافي. لم يك الحيدري مجرد شاعرٍ آخر في سجل الشعر العراقي الحديث، بل  مثالًا للمثقف الذي وُلد وفي داخله قلقٌ يرفض الاصطفاف، ورؤيةٌ تُقاوم التيارات الجارفة، فاختار أن يكون وحده، يكتب شعره بمعزل عن إغراءات السياسة، حتى وإن كان في صميم العاصفة.وُلد بلند الحيدري في بغداد عام 1926 لعائلة كردية ذات مكانة اقتصادية واجتماعية، ما وفر له بيئة ثقافية خصبة، لكنه لم يتماهَ مع طبقته، ولم يغره الثراء أو المكانة التقليدية. منذ شبابه، انجذب إلى عالم الأدب، وتأثر بتجربة حسين مردان، ذلك الشاعر الذي مثَّل روح التمرد الجريئة، فكان رفيقه في الخطوات الأولى من الطريق. ولكن، رغم الصخب الوجودي الذي ميّز حسين مردان، ظل بلند أقرب إلى التأمل العميق، وإلى الحزن الممزوج بالتحدي. لم يك صراخه عاليًا، لكنه  موجعًا.لم يك بلند الحيدري، على عكس كثير من أبناء جيله، ميالًا إلى الشيوعية رغم أن الماركسية كانت مناخًا شبه حتمي لكثير من المثقفين العراقيين في الأربعينيات والخمسينيات. ولم يك قوميًّا رغم أن الفكر القومي  له سطوته خلال الستينيات وما بعدها. ظل أقرب إلى الاستقلال الفكري، وهذا ما انعكس في شعره، إذ لم يرفع شعارات، ولم يكتب قصائد تعبئة أو تحريض، بل كتب عن الإنسان المغترب حتى وهو في وطنه، وعن الذات التي تبحث عن خلاصها دون أن تسقط في أيديولوجيا تحدد لها مسارها.يقول بلند الحيدري في واحدة من قصائده:

“لك أن تطرقي الباب.. لكنني لن أفتح”

، يختصر موقفه من العالم، فهو يرى الطرق على الأبواب، ويرى الفرص المتاحة، لكنه يختار العزلة الواعية، يختار أن يكون شاعرًا لا يهتف، بل يهمس، لكنه همس يحمل في طياته أسئلة وجودية شائكة. لم يك ضد السياسة، لكنه  ضد الانخراط في لعبة الولاءات التي تفقد الشاعر هويته. لهذا بقي بعيدًا عن الجماعات الفكرية، حتى عندما كانت المغريات كبيرة، وكان الاستقلال صعبًا.عاش بلند بين أجيال متصارعة، جيل السياب والبياتي، ثم جيل السبعينيات وما بعده، لكنه لم يسعَ ليكون في مقدمة المشهد، بل ظل شاعرًا هامشيًا بالمعنى الإيجابي، أي ذلك الذي يراقب من بعيد، ويكتب قصيدته دون أن يحاول إثبات شيء لأحد. ربما لهذا لم يأخذ المكانة التي استحقها،  وظل صوته أخفت من أصوات مجايليه، لكنه  صوتًا مختلفًا، صوتًا ينتمي لنفسه قبل أن ينتمي لعصره.يقول في إحدى قصائده:

“وها أنذا الآن وحدي.. كما كنت دومًا.. أضم المدى للمدى”

وحدته لم تك عزلة فحسب، بل  خيارًا فلسفيًا، خيار شاعر يعرف أن الطريق إلى الحقيقة يمر عبر المسافة التي يضعها بينه وبين الآخرين. لم يك زاهدًا بالمعنى الصوفي، و لم يك ساعيًا نحو الأضواء أيض.  يعرف أنه شاعر، ويعرف أن الشاعر ليس مطالبًا بأن يكون مؤدلجًا أو منتميًا، بل أن يكون حرًا في كلمته، وهذا ما جعله عصيًّا على التصنيف.حين غادر العراق، لم يك مجرد مغترب آخر، بل  شاعرًا يحمل وطنه داخله،  لا يسمح له بأن يتحول إلى خطاب سياسي. كتب عن الحنين، ولم يكتب عن الوطن كفكرة أيديولوجية، بل تجربة شخصية، ألم، حزن لا يمكن محوه.يقول:

“وطني؟

هو هذا الذي في داخلي..”

وهنا نجد أنه لم  يبحث عن وطن بالمفهوم التقليدي، بل يرى الوطن كحالة شعورية، وذاكرة لا تغيب حتى وإن تغيرت الجغرافيا. هذه النظرة المختلفة للوطن جعلته بعيدًا عن شعر التمجيد أو الهجاء، فهو لم يمدح ولم يهاجم، بل اكتفى بأن يسجل إحساسه العميق بالغربة.إن تجربة بلند الحيدري ،هي تجربة الشاعر الذي قرر أن يكون مستقلاً في زمن الاصطفاف، أن يكون هامشيًا في زمن الأضواء، أن يكون شاعراً فقط، لا مؤدلجًا، لا محاربًا، لا ناطقًا باسم أحد. وهذه الحرية، رغم أنها جعلته أقل شهرة من بعض مجايليه، إلا أنها منحته صوتًا خاصًا، سيظل حاضرًا رغم كل شيء. بلند الحيدري شاعرًا  لم يرفع صوته في الساحات، ولا خطيبًا يلقي قصائده بحماسة المقاتلين، بل  أقرب إلى المتأمل، إلى ذلك الذي يراقب المشهد ثم يلتقط جوهره بكلمات قليلة، لكنها تنفذ عميقًا إلى القلب والوجدان.  شعره أقرب إلى بوح الداخل منه إلى بيان الخارج، إذ لم ينشغل بالخطاب السياسي المباشر، بل بالغوص في الإنسان وتناقضاته، في العزلة والاغتراب والبحث الدائم عن معنى للحياة.لم يكن رفض بلند الحيدري للأيديولوجيات رفضًا صاخبًا، بل  رفضًا ناعمًا، هامسًا، لكنه ثابت الجذور. لم يتبنَّ الشيوعية، رغم أنه عاش في زمن كانت  الماركسية تيارًا جارفًا بين المثقفين، ولم ينتمِ إلى الفكر القومي، رغم أن الستينيات شهدت صعود القومية العربية كقوة ثقافية وسياسية. اختار أن يكون مستقلاً، حتى وإن كلّفه ذلك العزلة.

يقول في إحدى قصائده:

“ماذا تبقّى مني؟

غير أنني واقفٌ في العراء

بين الجهات التي لا تراني

وبين الجهات التي لا أراها”

، يتجلى إحساسه بالضياع، بالوقوف في منطقة لا ينتمي إليها أحد، بين معسكرات متقابلة لا تعنيه، وبين قوى تتصارع على هويته بينما هو يبحث عن هويته في داخله، لا في الاصطفافات الخارجية.لم يكن بلند شاعر الجماهير ولا شاعر الحشود، بل شاعر الذات التي تواجه العالم بحيرةٍ متعبةٍ وصمتٍ طويل. لم يكن صراخه عاليًا، لكنه  موجعًا،  صمته أكثر تعبيرًا من ضجيج الآخرين.في إحدى قصائده يقول:

“أتوارى عن العالمِ المستبدِّ

وأدنو من الوحدةِ الكاسرة

أبحث عني ولا أجدني

بين يديكِ ولا بين أذرعهم”

، نلمح فلسفته الخاصة في العزلة، في الانسحاب من المواجهة التي لا يرى فيها جدوى، ليس ضعفًا، بل قناعةً بأن العالم لن يُفهم بالضجيج، بل بالتأمل العميق في الذات والوجود. لم يك هاربًا، بل  رافضًا لمعارك لم تكن معاركه.عندما غادر بلند الحيدري العراق، لم يكن مغتربًا بالمعنى التقليدي، بل  منفِيًّا روحيًا حتى قبل أن يغادر. لم يكن الوطن لديه مجرد مكان، بل  حالة وجدانية لا تتغير بالمسافة،  تترسخ أكثر كلما ابتعد عنه.يقول:

“وطني؟

هو هذا الذي في داخلي

هو هذا الذي يتآكلني

ويزيدني بعدًا عنه كلما اقتربت منه!”

في هذه الأبيات، نرى المفارقة التي عاشها بلند، فهو لا يستطيع الاقتراب من وطنه، حتى حين يكون قريبًا منه، لأن الوطن لديه ليس جغرافيا، بل حالة نفسية، تجربة يعيشها أكثر مما يسكنها.وفي قصيدة أخرى، يصف شعوره بالغربة رغم أنه بين أهله:

“يا أيها الغرباءُ

أعيدوا لي وجهي الذي أضعتموه بينكم

أعيدوا لي صوتي الذي أخرسَتْهُ الضوضاء”

هذه صرخة حزن لا تخرج عنيفة، بل تأتي هامسةً، لكنها محملة بكل ما يملكه من ألم.  عاش غريبًا حتى بين أهله، فلم  يستطيع أن يكون جزءًا من مشهد لم يؤمن به، ولا من قافلة تسير في طريق لا يخصه.إن تجربة بلند الحيدري ليست تجربة الشاعر الذي يبحث عن السلطة أو التأثير السياسي، بل الشاعر الذي ينتمي للقصيدة وحدها، للمسافة التي يضعها بينه وبين العالم ليتمكن من رؤيته بشكل أوضح. لم يكن شاعر الهتافات، بل شاعر التأمل، لم يكن صوته عاليًا، لكنه  واضحًا، صادقًا، بلا رتوش ولا أقنعة.

يقول في واحدة من أجمل قصائده:

“أنا وحدي

وحدي كما كنت دومًا

أضم المدى للمدى

وأبحث عني

ولا أجدني..”

بهذه الكلمات، يلخص بلند الحيدري رحلته الشعرية والوجودية، فهو الشاعر الذي ظل يبحث عن نفسه بين المنفى الداخلي والمنفى الخارجي، بين وطن يسكنه لكنه لا يستطيع الإقامة فيه، وبين ذاتٍ تتآكلها الأسئلة دون أن تجد لها إجابة. لم يكن شاعرًا صاخبًا، بل كان مثل نهرٍ يجري بصمت،  يترك أثره العميق في الأرض التي يمر بها.في عصرٍ امتلأ بالشعارات الكبرى والمشاريع الأيديولوجية الطاغية، اختار بلند الحيدري طريقًا مختلفًا، طريق الصدق الشخصي، حيث لم يكتب إلا ما يشعر به، ولم يتورط في تزيين الواقع أو تجميله. لم يكن شاعر مناسبات، و شاعر بلاط، بل شاعر الإنسان البسيط، المهمّش، الباحث عن معنى وسط ضجيج العالم.يقول في إحدى قصائده:

“كلما كبرتُ

صغرتُ في عيونهم

وكلما صدقتُ

قالوا: يخادعنا هذا الغريب”

، يكشف بلند عن معاناته مع الوسط الثقافي والسياسي الذي لم يكن يرى في استقلاليته إلا نوعًا من الخداع أو المناورة، بينما   في الحقيقة صادقًا مع نفسه إلى أقصى الحدود.  يدرك أن العالم لا يرحم من يرفض الاصطفاف، و مع ذلك لم يغيّر موقفه،  ظل كما هو، شاعرًا بلا انتماء إلا للشعر.امتاز شعر بلند الحيدري بلغته الشفافة، البسيطة في ظاهرها، العميقة في دلالاتها. لم يميل إلى التعقيد، بل  أقرب إلى الحكي الصادق، إلى البوح الذي يلامس الروح بلا تصنّع. يختار كلماته بعناية، بحيث تبدو وكأنها خرجت بشكل طبيعي، لكنها تحمل خلفها طبقات من المعاني التي تحتاج إلى تأمل.يقول:

“كنت أبحث عن لغة

لا تخونني حين أقول الحقيقة

ولا تخذلني حين أقول الحلم..”

بهذه البساطة العميقة، يلخص بلند فلسفته الشعرية، لم يكن شاعر التكلف، ولا شاعر الغموض المفتعل، بل  شاعر الوضوح الموجع، الذي يجعل كلماته قريبة من القلب،  لا يمنحها بسهولة، بل تحتاج إلى الغوص فيها لاكتشاف عمقها الحقيقي.

عاش بلند حياته بين المنافي، دون ان يكون منفِيًّا بالمفهوم الجغرافي فقط، كان منفِيًّا حتى  في قلب بغداد،  وهو بين أصدقائه ومجايليه. لم يشعر يومًا بأنه جزء من مشهد، كان دائمًا على الهامش، يراقب، يفكر، ويكتب شعره بعيدًا عن الأضواء.يقول:

“أنا الغريبُ هنا وهناك

أنا العابرُ في كل أرضٍ

دون أن أترك أثرًا..

أنا المسافر بلا خريطة

والعائد بلا وطن..”

هذا الإحساس باللاانتماء، بالوجود في كل مكان وعدم الانتماء إلى أي مكان،  السمة الأبرز في تجربة بلند الحيدري، هو الشاعر الذي لم يجد مكانًا يتسع له، لأنه أكبر من التصنيفات، وأعمق من الأيديولوجيات، وأكثر صدقًا من أن يكون جزءًا من لعبة السياسة.

لم يكن بلند الحيدري شاعرًا يُشبه الآخرين، او صدى لأحد، او امتدادًا لأي تيار، كان صوته الخاص، الهادئ، العميق، الذي لم يسعَ إلى الشهرة، لكنه بقي  جزءًا لا يتجزأ من تاريخ الشعر العربي الحديث. لم يك شاعر السلطة، ولا شاعر الجماهير،  كان شاعر الإنسان، الذي يبحث عن معنى في عالم يعج بالضجيج.يقول في آخر ما كتب:

“وها أنا ذا..

أحمل حقيبتي الأخيرة

أعبر هذا العمر إلى مجهولٍ آخر

فلا تسألوني: إلى أين؟”

هكذا، غادر بلند الحيدري الدنيا كما عاشها، شاعرًا في طريقه إلى مجهولٍ آخر، تاركًا خلفه قصائد تشهد على تجربة مختلفة، تجربة شاعر لم يخضع لشيء، ولم يقترب من أحد، بل ظل دائمًا، شاعرًا وحده.!!

المشـاهدات 184   تاريخ الإضافـة 18/05/2025   رقم المحتوى 63028
أضف تقييـم