النـص :
عند الحديث عن المشهد الثقافي العراقي بكل تنوعاته وطبقاته، لا يمكن إغفال الدور المميز الذي أدّاه المبدع الميساني في إثرائه، من خلال حضور فاعل ومتفرّد ينبع من هوية ثقافية عميقة الجذور، تمتد إلى صميم الجنوب العراقي وتاريخه. فقد أسهم أبناء ميسان إسهامًا كبيرًا في بناء البنية الثقافية الوطنية، بما حملوه من رؤى أصيلة وأشكال تعبير فنية وأدبية متميزة. ورغم صغر مساحة ميسان، إلا أنها تتمتع بتنوع بيئي فريد؛ حيث تتجاور الأهوار مع الصحراء، وتتداخل حدود الريف مع المدينة، في مشهد إنساني وثقافي غني. وقد جسّد هذا الواقع الكاتب سيد جاسم الهاشمي في روايته "ضياع بنت البراق"، من خلال رحلة رمزية في البحث عن "فرسه" الضائعة، انطلاقًا من "أم عين العتيجة"، متنقّلًا بين بيئات مختلفة، لكل منها طابعها الخاص من العادات والتقاليد. وفي هذا التنوع، يمكن تمييز الإنسان من لهجته وزيّه، ما أضفى على ميسان فسيفساء ثقافية ساهمت في تشكيل هوية جامعة اتسمت بالشجاعة والكرم والإيثار. هذا التمازج الزماني والمكاني صهره الإنسان الميساني في بوتقة واحدة، أفرزت مبدعين في مختلف ميادين الفن والفكر. بعض هذه الولادات الإبداعية جاءت بسلاسة، وأخرى تطلبت جهدًا مضاعفًا، وكأنها ولادات "قيصرية" في بيئة لا تخلو من التحديات. فميسان بطبيعتها ولّادة، وناسها ذواقون بالفطرة؛ فطرة الله التي فطر الناس عليها. وكان للمضايف والمجالس دور جوهري في صقل هذا الحس الإبداعي، إذ لم تكن مجرّد أماكن للضيافة، بل مؤسسات اجتماعية تُعلّم فيها أصول الحوار، وأخلاقيات الجدل، وترتيب الجلوس حسب المكانة والعمر، ومهارات حل النزاعات بأسلوب دبلوماسي متوارث. هذه المجالس كانت بمثابة مدارس تُصقل فيها الشخصية وتُرعى فيها المواهب، ويُنقل فيها التراث الشفاهي من جيل إلى جيل. في هذا الفضاء، تفتّحت العقول والقلوب على الشعر والحكاية والفن، وتكونت ملامح الذائقة الثقافية التي ميّزت الإنسان الميساني. ميسان ليست مجرد محافظة جنوبية، بل فضاء ثقافي حي نابض بالتنوع الإنساني. فالإبداع فيها ليس طارئًا أو عابرًا، بل ثمرة لتراكمات فكرية وروحية طويلة، شكّلتها بيئة الأهوار بما تحمله من عناصر شفافة: الماء، والطين، والقصب، والبردي، التي ساعدت على تشكيل خيال إبداعي مرن، يختلف تمامًا عن قسوة بيئات الجبال أو الصحارى، المتولدة من تكويناتها الحجرية والرملية. ومن ميسان خرجت أسماء لامعة في الأدب والشعر والفن، لم يكونوا مجرد أفراد، بل سفراء للوجدان العراقي، عبّروا عن هموم الناس وأحلامهم بلغة صادقة نابضة بالحياة. من ضفاف الهور، انطلقت أصواتهم إلى بغداد والعواصم العربية، محمّلة بروح الجنوب وملامحه. فالحديث عن ميسان هو حديث عن النخيل والمقاهي الشعبية والمضايف، عن الحكايات التي تُروى شفاهيًا، عن الغناء الريفي الحزين، وعن العزلة والحب والفقد، عن الإنسان الذي بقي مخلصًا لأرضه وهويته رغم كل المحن. في خضم الأزمات والانكسارات، ظل المثقف الميساني ثابتًا، يقاوم الخراب بالإبداع، ويؤمن أن الكلمة أصدق من الرصاصة، وأن الثقافة هي الحصن الأخير الذي لا يُحتل. ولهذا، لم تكن ميسان يومًا هامشًا في الثقافة العراقية، بل كانت دائمًا قلبها النابض، وروحها المتجددة، تؤكد أن الجغرافيا قد تكون صغيرة، لكن الإبداع يعرف الاتساع الحقيقي حين يتصل بالصدق والانتماء.
|