الأحد 2025/6/1 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 23.95 مئويـة
نيوز بار
“رسائل لم تصل”
“رسائل لم تصل”
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

د. انسام المعروف

 

في زاوية من ذاكرة المساء، تجلس ندى، تُرتّب وحدتها كما تُرتّب العرائس الصغيرات أملَ الحفلات التي لن تُقام. عاشت عمرها في انتظار رسالة… لم تصل.

ذاك الذي كان اسمه كريم، وكان يشبه القصائد التي تَحرق من يظن أنها تُشبهه. ذات عشقٍ بعيد، ظهر في فصلٍ من فصولها الجامعية، بين كتابٍ عن بودلير وصفحة من رواية لا تنتهي. التقت به كما تلتقي الروح بمرآتها، مصادفةً، لكن بترتيب سماوي.

حدَّثها عن الحُب كما لو كان مخطوطًة عتيقًة، لا يَقرؤها إلا من يُتقن حزن الحروف.

وعدها بكلمات لا تنتمي إلى الأرض “سأبني لك بيتًا في صدر القصيدة، وسأكتبك كل صباح، قبل أن يُعلن النهار وجوده.”

وكانت تُصدّق كلماته… لأن من يُحب لا يقرأ النهايات.

ودون استئذان، استيقظت ذات صباحٍ، فوجدت الغياب قد أخذ هيئة رجلٍ لا يعود. لا رسائل. لا صوت. لا تفسير. فقط صمته المعلّق على حبال الوقت، كقميص نسيه صاحبه في أول الرحيل.

أمضت ندى سنواتها في ملاحقة آثارٍ لا تُرى، كانت تُحدّث صوره، تُرتبها كأنها فصولٌ ناقصة من سيرة عاشق منقرض. كل مساء، كانت تنتظر رنينًا لا يأتي، وكل صباح تُقنع قلبها: “ربما ضلّت الرسالة طريقها.”

كانت تكتب إليه رسائل… ولا تُرسلها. تخاف أن تصدمها الحقيقة:

أن لا أحد ينتظرها على الطرف الآخر من الخيبة.

ومرت السنوات…

كبرت ندى، لكن وجهها لم يشيخ كما ينبغي. احتفظ ببقايا أنوثةٍ لم تجد من يقطفها، وبريق عينين يَنتظران لحظة صدق من زمن كاذب.

في الأربعين، ما زالت تضع عطره على معصمها… كأنها تهيّئ اللقاء.

وفي الخمسين، بدأت تكتب اسمه على الضباب الذي يكسو مرآتها.

وفي الستين، صارت تحادث كرسيّه الفارغ كأنّه هناك، يستمع.

ندى (بهمسٍ من ذاكرة باهتة):

“لم أُرد أن تحبني… أردتك فقط أن تبقى بجانبي لاحبك.”

وفي احدى لحظات آخر العمر، وندى تجلس مساء على الكرسيّ الهزاز في دار المسنين، تحدّق في الشارع الذي لم يعد يعرفها. ومع هبوب النسيم، قالت للممرضة:

ـ “إنه كريم… يحمل لي رسالة تأخرت خمسين عامًا.”

لم يُصدّقها أحد، لكن عينيها كانتا تُصدّقان كل وهم، لأن الذاكرة لا تشيخ حين تحب.

وفي مساءٍ خريفي، غفت ندى.

وحين أتوا، وجدوها مبتسمة.

بين يديها ورقة ذات لون وردي، كُتب عليها بخطّ مرتجف: “إلى الذي لم يأتِ، لقد أحببتك بما يكفي لعمرين من الغياب.” كانت الورقة ملتصقة بورقة قديمة وردية قد بهت لونها وقد خط عليها

" أحبكِ جدا" وجدا" وجداً" … الرسالة الاولى والوحيدة من حبيبها.

لم تمت ندى… بل عادت إلى ذاك الحلم الذي نسجته من رسائل لم تُكتب، ومن حبّ لم يولد كاملًا.

هكذا تموت النساء اللواتي لم يحبهنّ أحد كفاية… ينتهين في انتظارٍ لا يعترف بالموت، بل يُحوّله إلى قصيدة.

المشـاهدات 206   تاريخ الإضافـة 20/05/2025   رقم المحتوى 63137
أضف تقييـم