الإثنين 2025/6/2 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 37.95 مئويـة
نيوز بار
قصة قصيرة
قصة قصيرة
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

سيد الجبل

 

فوز حمزة

 

تعودتُ كل صباح على فتح نافذة غرفتي، ليس فقط لأستنشق هواءً نقيًا يشعرني أن هناك أماكن في الأرض ما تزال صالحة للعيش، بل لأنَّ النافذة تطلُ على سلسلة جبال الألزاس العظيمة حيث أسكن.

تركتُ النافذة مفتوحة وذهبتُ أستعد للرحلة الجبلية التي سأقوم بها ضحى هذا النهار حيث قلعة بورغ  (مادن بورغ ) بناءً على دعوة صديقتي روزالين وزوجها أوتو، إذ سيشتركان في عرض للمناطيد فوق سفح الجبل مع ثلة من الأصدقاء الذين عجزوا عن إقناعي للمشاركة مع زوجي لوكاس ولو لمرة واحدة في تجربة، قالوا إنها ستكون متفردة.

زوجي لوكاس يخشى المرتفعات، ولا شيء سيجبره على صعود الجبل كما كان يردد، لم يعد هذا الموضوع يزعجني لأنني أعرفُ أن الأمر خارج إرادته، فأنا أيضًا أخاف الظلام ولا أنام إلّا والمصباح مضاء.

حملتُ معطفي، وقبعتي الربيعيين، وحقيبة الظهر التي وضعتُ فيها شطيرة الجبن والخيار مع تفاحة ثم وضعت في الجيب الجانبي الهاتف وشاحنته.

 قبّلني لوكاس ثم قال: سأشتاق لكِ سيدة الجبل! هذا الاسم أطلقه عليّ لوكاس لأن الطريق الذي أسلكه نحو القلعة يسمى ( سيد الجبل ) وحينما وجد أن حديثه لم يثر اهتمامي، أضاف بعد أن احتضنني:

-       سأعدُ لك عشاءً لذيذًا، ما رأيك في اللازانيا مع النبيذ الأحمر؟

-       رائع عزيزي، ولا تنسَ أن تعتني بالكلب.

رافقني لوكاس حيث كنيسة القديسة جوليانا وهو طريق يختصر المسافة، وأيضًا أقل وعورة من غيره.

بدأ المكان يرتفع ويتعرج شيئًا فشيئًا، كانت الأشجار منتشرة على صوبي الشارع، حاجبة القسم الأكبر من أشعة الشمس التي بدأت ترتفع قليلًا مع اقتراب منتصف النهار.

بعد أربعين دقيقة من السير، وصلتُ إلى التقاطع الذي يقسم الشارع يمينًا وشِمالًا. أسندتُ ظهري لأريحه على جذع شجرة كستناء تحيطها من ثلاث جهات شجيرات الورد الأحمر البري. أغمضتُ عينيَّ لوهلة متماهية مع الصمت الذي يخبرنا كم نبدو أغبياء وسط ثرثرة الأحاديث وبلبلة الأفكار!.

شَرَّعتُ نوافذ قلبي كي أستمتع بهذا الجمال المسرف، تساءلتُ وأنا ما أزال تحت تأثير مبهج: هل الحياة هنا تتآزر لتخفيف الأحمال التي تُنهك الروح وتُزحم الذاكرة؟ لقد تلاشى قلقي وكأن المكان هنا يتفاوض معي سرّيا على جعل كل شيء يبدو مثاليًا.

وأنا غارقة في التأمل بعد أن بللتُ كفي بماء نبع بجانب الشجرة، نهلتُ من النبع الذي كانت مياهه باردة جدًا وبدتْ رمادية اللون مائلة إلى الأخضر بفعل ظلال الأشجار التي غطت ما تحتها.

نهضتُ لأواصل الرحلة مستمتعة بمنظر السناجب تتقافز بين الأغصان ومصغية لصوت طائر الحسون الأوراسي، لم يكن المشهد جديدًا عليّ، لكننّي في كل مرة أكون فيها هنا أشعر كأني أولد من جديد، لكن شيئًا مفاجئًا وقع، غير مسار تلك الرحلة العجيبة!.

 لقد انزلقتْ قدمي لرخاوة الأرض بفعل الأمطار الغزيرة التي هطلتْ مساء البارحة، ومع التواء كاحلي، فقدتُ توازني وسقطتُ في الوحل!.

مضتْ لحظات كي أستوعب ما جرى لي، رفعتُ رأسي قليلًا ثم نصف بدني الأعلى مستندة على كفيّ .. سحبتُ قدمي الملتوية متأوهةً لأنهض وقد نجحت بصعوبة لأن ألمًا شديدًا بدأتُ أشعر به في ساقي كلها.

سرتُ ببطءٍ صوب صخرة كبيرة كي أستند إليها، وما إن فعلتُ حتى أصابني الهلع لمنظر حقيبتي التي سقطت في النهر وسرعان ما غابت في الأعماق .. فقدتُ أملي في الطعام والهاتف ومعهما فقدتُ الأمان.

ماذا أفعل؟! تساءلتُ وأنا أفكر في العودة، فأنا لم أبتعد كثيرًا، لكن نظرة مني صوب الطريق المنحدر وساقي العرجاء، جعلتني أغير رأيي بسرعة.

نهضت من مكاني بعد أن لمحت كوخًا، وعلى الرغم من أن الكوخ يقع على مرتفع من المكان الذي أقف فيه، إلّا أنني لا أملك خيارات كثيرة بشأن هذا الأمر، لهذا كان عليّ الوصول إلى هناك بأية طريقة.

هاللو .. هل من أحد هنا؟

ناديتُ لعدة مرات وحين تبين لي عدم وجود أحد، دفعتُ بحذرٍ البابَ الذي كان مواربًا، وألقيتُ بجسمي على أريكة بجانب الموقد بعد خلعي الحذاء والمعطف الملطخين بالوحل.

كان الكوخ صغيرًا، لا يحتوي سوى على طاولة مربعة الشكل عليها صحن فيه تفاحتان وموزة واحدة، أما ماكنة القهوة، فقد أعادتْ لي شيء من الراحة، قلتُ أحدثُ نفسي: شكرًا!.

وأنا أحتسي القهوة، خطر لوكاس ببالي وهو مستلق الآن في الفراش يقرأ في كتاب بينما ( رينو ) نائم قرب قدميه. حسدته في سرّي وربما حقدتُ عليه قليلًا، سيظن أنني الآن مع أصدقائي بينما أصدقائي سيظنون أنني فضلتُ البقاءَ مع زوجي في البيت. يا للمفارقة!.

استلقيتُ على السرير الذي كان حنونًا على جسمي المنهك لأستيقظ من النوم بعد ساعات والظلام قد حل فوق كل شيء، مضتْ لحظات قبل إدراكي أن هذا ليس بيتي، وليس سريري، وأنني قد تعرضتُ لحادث .. لقد تذكرتُ كل شيء، حينها تمكن الخوف مني حتى كاد قلبي أن يتوقف وقد زاد هذا الخوف رؤيتي لقدمي وهي منتفخة قليلًا.

نظرتُ عبر النافذة إلى النجوم والقمر المكتمل، انتابني إحساس كأنني في عالم آخر، قلتُ لنفسي وأنا أغلقُ النافذة: بل أنا حقًا في عالم آخر!

أشعلتُ المصباح، لكن ذلك لم يغير من الأمر شيئًا، أنا وحيدة وسط ظلام الجبل وقد ضاعف توتري شعوري باليأس من أنه لن يتم  العثور عليّ قبل صباح الغد وبالتأكيد لن يكون زوجي هنا .. قد يبلغ الشرطة، لكن لن يكون معهم أبدًا!.

بعد دقائق لا أعرف عددها، استسلمتُ لكل شيء وبدأت أخضع لفكرة أنني سأقضي الليل هنا بمفردي. مرَّ الليل كما لم يمر عليّ من قبل.. ظلام وسكون وخيالات لم أكن أعرف من قبل أنها موجودة في رأسي!.

فتحتُ النافذةَ بعد أن بدأتْ خيوط الفجر تتسلل من بين الأغصان المتشابكة الممتدة بين الأشجار لتخبرني بعودة النور للأرض. لم أشهد منظرًا للفجر من قبل في هذا المكان .. شيء يفوق الوصف، يفوق الكلمات، بدأتْ الطيور تهدل والعصافير تزقزق لتزودني بأمل جديد وربما روح جديدة.

سماعي لصوت هدير محرك سيارة خارج الكوخ، جعلني أمد رأسي وجذعي كي أرى القادم، لم أصدق عينيَّ التي أخبرتني أن ما آراه أمامي هو زوجي لوكاس!

شعرتُ بقلبي آمنًا مطمئنًا وأنا مرتمية في أحضانه!.

 وأنا أنظر نحو لوكاس وهو يقود السيارة نحو البيت، قلت له: أحبك سيد الجبل!.

المشـاهدات 149   تاريخ الإضافـة 24/05/2025   رقم المحتوى 63227
أضف تقييـم