
![]() |
حين تصبح الجوائز مقابر… وتُشنق الرواية العراقية في صالات الفنادق!! |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص :
اشارات تحريضية/ شوقي كريم حسن
**وصايا العرب الكاذبة، التي تمطرنا بها المنصات والملتقيات والجوائز، كلما دارت عجلة الاختيار المزيف لـ”أهم خمسين رواية عربية”، أو “مئة عمل لا يُنسى”، وكلما تطاولت الأصابع المرتعشة نحو سرديات مستوردة من وجدان غيرنا، ومموَّلة من قاعات فندقية لا تمتّ بصلة إلى دم هذا التراب، ولا تعرف شيئًا عن وجع الناجين، ولا عن موت الجياع، ولا عن الظمأ الكامن في جفون بغداد، والبصرة، والناصرية.هل يعقل أن يُختزل الأدب العراقي، السبّاق في بناء معمار الرواية الحديثة منذ الستينات، إلى روايتين أو ثلاث تُدرج على استحياء، وكأنها نفايات حرب مرّ عليها الوقت؟ من يملك هذا الحق؟ ومن سمح لهؤلاء المصنّفين أن يصنفوا دون أن يحرقهم ضوء الحقيقة؟ أهي القوائم نازلة من الغيب؟ أم وحي “اللجان” التي يعرف القاصي والداني أنها تتكون من شلليات، وعلاقات مصالح، وبيوت نشر مدعومة، ومراكز ثقافية مأجورة تستعير خطاب الحداثة لتسويق أهواء سلطات غير معلنة؟ من يتابع القوائم يلاحظ التكرار المتعمّد، وكأن الرواية العربية تدور في حلقة مفرغة، لا يخرج منها سوى نفس الأسماء، ذات السرد، ذات البلاغة المجففة، ذات المشاريع التي تتوسل مفاهيم الغرب عن “ما يجب أن تكون عليه الرواية”، لتُمنح جائزة، أو تُترجم، أو تُصفّق لها لجان التحكيم. أما الرواية العراقية، فتبقى أسيرة التهميش، رغم أنها الأكثر اتصالًا بالواقع المهشم، والأصدق في تعرية السلطة، والأكثر توترًا واحتدامًا، لأنها وُلدت من رحم الدم، لا من ورق المؤتمرات.كيف يُشطب فاضل العزاوي، وغائب طعمة فرمان، وعبد الرحمن مجيد الربيعي، ، وسعد محمد رحيم، وعبد الستار البيضاني ،وعبد الخالق الركابي، وغيرهم الكثير، من خرائط السرد العربي؟ كيف لا تُذكر “المسلخ”، أو “القلعة الخامسة”، أو “الرجع البعيد”، أو “الحلم العظيم”، أو “الساخر العظيم”، أو نواح سومر وقبل ان يحلق الباشق،وخلف السدة،وشارع الزعيم، ولبابة السر؟”، في أي قائمة تحترم ذاكرتها؟ من يتعمد تغيب جماليات السرد العراقي العريق، ويستبدله بتجارب حديثة هجينة، لا تنتمي سوى إلى نزوات النشر وتخمة المهرجانات؟ كل المؤشرات النقدية، من داخل العراق وخارجه، تشير إلى غزارة إنتاج سردي يراوح بين الواقعي والحلمي، السياسي والفنتازي، الشعبي و التأريخي، لكن لا أحد من القائمين على صناعة القوائم يقرأ. إنهم يتداولون نصوصًا بعينها، يقدّمون أسماء بعينها، ويخدمون توجهات ثقافية مشروطة، أقل ما توصف به أنها تحصر الأدب العربي في جغرافيا محددة، تدور في فلك الخليج أو المشرق أو المركز اللبناني – المصري، باعتبارهم حاملي مشعل التنوير!أما النقد العراقي، الذي لطالما كان صلبًا، ومتحررًا، وبعيدًا عن التورط في الصفقات، فيُعزل عمدًا،ويُقصى من لجان التحكيم، لأنهم يعرفون أن الناقد العراقي لا يبيع كلمته. وإذا تكلم فضحهم.لهذ، يُعمد إلى إقصائه كما يُقصى الكاتب، لتكتمل المسرحية، أن الرواية العراقية لا تحتاج شهادة من لجان العار. لانها أصدق من كل قائمة، وأشد عمقًا من كل توصية. لكن الجريمة تتكرر: الإقصاء، التهميش، والإيحاء بأن العراقيين لا يكتبون، أو لا يكتبون جيدًا، أو لا يملكون أدواتهم. وما ذلك إلا كذب مقصود، يهدف إلى طمس ذاكرة وطن، وسرقة صوته، ومحوه من الحكاية.وصاياهم كاذبة. وقوائمهم أدوات ناعمة للإلغاء. ما نكتبه، رغم القهر.ليست مسألة ذوق، ولا اجتهاد نقدي محايد كما يدّعون، بل سياسة ثقافية متعمدة، تُمارس الإقصاء الأمني ، بثياب لغوية حريرية، تصنع “ذوقًا عامًا” زائفًا، وتتلاعب بوعي المتلقي، فتجعل من الرواية تسلية، أو خطابًا تسويقيًا، أو منتجًا مطابقًا لمواصفات الجوائز، لا نداء وجود، ولا تفجيرًا للأسئلة.أولئك الذين يكتبون لنا الوصايا، ويعلقونها على صدور الرواية العربية، ليسوا سوى موظفين في جهاز توجيه ثقافي، تحركه مراكز تمويل غربية أو خليجية، أو مؤسسات ثقافية ترعى كُتّابًا مستأنسين، يكتبون ما يُطلب منهم، ويعدّون قائمة “الأفضل” كما تُعدّ قائمة الطعام في حفلات النخبة: سريعة، متكررة، بلا روح. من بين خمسين أو مئة رواية يكررون أسماءها، أين الروايات التي كتبت الحرب الطائفية مثلما كتبها العراقيون؟ أين من جسدوا الخطف، والسحل، والخوف من الحواجز؟ أين الذين رأوا بغداد وهي تنهض ثم كُتب عليهم أن يصمتوا؟ هل هؤلاء لا يُمثلون الرواية العربية؟ أم أن الرواية العربية في عرفهم يجب أن تكون مطهرة من الألم، وحيادية حتى في الحريق؟يحدث أن تقرأ رواية عن بغداد كتبها كاتب عربي لم تطأ قدماه أرض العراق، وتراها تتصدر القائمة، لأنها “تجريبية” أو “تنتمي إلى ما بعد الواقعية”، بينما تُقصى روايات العراقيين لأنها “صادمة”، “عنيفة”، “ثقيلة”، “غامقة”، كما يقول نقاد الجوائز… وكأنهم يبحثون عن رواية تشبه كتالوج معرض، لا صراخ أمٍ تنبش في جثة ابنها.لا ننسى أن الأدب ليس جماليات الأسلوب، بل موقف. الرواية العراقية وقفت في مواجهة الطغاة، والحرب، والاحتلال، والفساد، والخراب، دون أن تستعير صوتًا غير صوتها. كتبت الموت ، وكتبت الفقر دون تجميل، وعرّت الدين حين صار أداة، والسياسة حين صارت جريمة. ولهذا تُقصى. لأنها تكشف. لأنها لا ترضى بأن تكون جارية في بيت السيد النقدي.هل يُعقل أن الروايات التي تُكتب في بلاد ليس فيها قمع، ولا حرب، ولا مجازر، تُعدّ “الأفضل”؟ هل بات الألم عيبًا؟ أم أن الرواية الجيدة في عرفهم يجب أن تكون بلا رائحة، بلا وطن، بلا جراح؟ منطقهم هذا يعيدنا إلى تسعينات الاستشراق الجديد، حين كان يُشترط على الكاتب العربي أن يكون ضحية، أو أن يتكلم عن الجنس والدين والمرأة ليُسمع صوته. اليوم يُشترط عليه أن يكتب “كما يريدون”، لا كما يشاء.نحن لا نطلب اعترافًا، ولا نلهث خلف الجوائز. نحن نكتب لأننا لا نحتمل السكوت. نكتب لأن بغداد تسكن في حناجرنا، والفرات في دمع عيوننا، والمقابر في ذاكرتنا. ونمضي في كتابة الحقيقة، حتى وإن جعلوا من كل المنابر أدوات نفي. سيأتي يوم، تُرمى فيه قوائمهم في النسيان، وتُقرأ رواياتنا كوثائق حية لزمن الخيانة، زمن “الوصايا الكاذبة” التي لم تك سوى محاولة لقتل صوت العراق؟ بأيادٍ “ثقافية” .كل قائمة يعلنونها، كل جائزة يرفعونها فوق رؤوس كتّابهم المعلّبين، كل ملتقى يدور فيه المتثاقفون كالدمى، هي طعنة في صدر الرواية الحقيقية… تلك التي وُلدت من طين الأهوار، من ظلال المقابر الجماعية، من خناجر الطوائف، من دمع الأرامل، من قهر الأمّهات العراقيات اللواتي ما زلن يحلبن الوقت كي لا تجنّ أرحامهن. أيها المهرّجون الجدد، يا سماسرة الجوائز، ويا كتبة التقارير النقدية التي تفوح منها رائحة البلاط الثقافي العفن… متى كانت الرواية تُقاس بعدد الترجمات؟ متى تُنتخب كما يُنتخب موظف العلاقات العامة؟أنتم لا تصنعون ثقافة، أنتم موظفو تزييف، تُرهبكم الكتابة الحرة لأنكم أبناء الصمت، وتؤلمكم الرواية العراقية لأنكم أبناء الأكاذيب. تصدمكم الحقيقة لأنكم اعتدتم على بلاغة الثرثرة، تخيفكم الذاكرة العراقية لأنكم دونما ذاكرة أنتم صغار أمام نصٍ كتب تحت أصابع مرتعشة في ليل انقطعت عنه الكهرباء، بينما تصنعون رواياتكم في مقاهي باريس ودبي، تحت المكيفات، وبعيونٍ لا ترى سوى الغلاف والسيرة الذاتية.هل تظنون أن محو السرد العراقي سيتم بصمت؟ هل تظنون أنكم إذا مررتم كل موسم أسماءكم المحنطة سننسى الروايات التي كتبتها الحناجر المتعبة في بغداد، والنجف، وكركوك، والموصل؟ أيها المرتزقة الجدد، ما بيننا وبينكم ليس خلافًا في الذوق، بل عداء في الجوهر. أنتم عبيد التزويق، ونحن أبناء الخراب. أنتم تكتبون لتُمنحوا، ونحن نكتب لأننا لم نمنح شيئًا سوى موتنا.تضحكون في مؤتمراتكم المتخمة على روايات تصف الأحياء الباريسية ومقاهي مدريد، وتضعونها في مقدمة القوائم لأنها تشبه وجوهكم، أما حين يصادفكم نصّ كتب عن القتل في شارع الرشيد، أو عن طفل يُسحق في الفلوجة، أو عن جندي يموت دون قبر في ديالى، فإنكم تصفونها بالرواية “الفظّة”، “غير الناضجة”، “الدموية”! بئس ذوق لا يحتمل الحقيقة، وبئس نقد يتقيأ الخوف من وجعنا. الرواية ليست منتجًا. ليست قالبًا. ليست شيئًا يُفصل حسب مقاسات لجان التحكيم. الرواية العراقية، التي تهمشونها عمدًا، لا تُكتب لتُعجب، بل لتصرخ. لتشهد. لتسجل. هي ضدكم، ضد صمتكم، ضد صفقاتكم، وضد مؤسساتكم التي تدير الثقافة كما تُدار شركات الإعلان، أنتم تخشون الرواية العراقية، لأنها تُعريكم. و تكشف بؤس مشاريعكم، وجهلكم، وخوفكم من أن تُقال الحقيقة بلا تزيين. الرواية العراقية المرآة التي ترفضون النظر اليها، لأن وجوهكم قبيحة، باهتة، خاوية من المعنى. استمروا في قوائمكم الكاذبة… نحن نكتب بأسمائنا الحقيقية، وبذاكرتنا التي لا تعرف المساومة. والرواية التي وُلدت من لحم المحنة، لا تُمحى بمؤامرة صامتة، ولا يشطبها بائع جوائز. وإن أسقطتم أسماءنا من قوائمكم، ننقشها في ذاكرة شعبنا الجمعية، وتقرأها الأجيال كما يُقرأ سفر الدم الأول!! |
المشـاهدات 556 تاريخ الإضافـة 11/06/2025 رقم المحتوى 63741 |