الأحد 2025/7/13 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 42.95 مئويـة
نيوز بار
حين نرى أنفسنا
حين نرى أنفسنا
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب كتب رياض الفرطوسي
النـص :

 

 

 

 

ليس أصعب على الإنسان من أن يرى نفسه رؤية صادقة. فالمرآة التي نمسكها بأيدينا غالباً ما تكون مغطاة بخدوش العادة، وغبار الخوف، وظلال الأوهام. نظن أننا نعرف ذواتنا، بينما الحقيقة أننا في أشد الحاجة إلى عيون أخرى ترانا على نحو لم نستطع رؤيته يوماً.

 

هنا تنبع أهمية الآخر — ذاك المختلف عنا في لونه، لغته، أفكاره، وتاريخه — فهو مرآتنا الغائبة التي تُظهر لنا وجهاً من وجوهنا لم يكن بادياً لنا. من دون الآخر، يضيق العالم حتى يصير أضيق من غرفة مظلمة، وندور حول ذواتنا كحشرات عالقة في كأس زجاجي.

 

لسنا وحدنا في هذه الأرض، ولا ينبغي لنا أن نحيا كما لو كنا معيار الصواب الوحيد. حين نحبس أنفسنا في معايير محلية ضيقة، يصبح أفقنا سجناً من الوهم، كمن يظن أن البحر ينتهي عند الشاطئ الذي يراه. إن الثقافات الأخرى ليست زينة معلّقة في أروقة المعارض، ولا أوراق سياحية نتصفحها في أوقات الفراغ، بل هي نوافذ مفتوحة على أنفسنا وعلى الحياة.

 

في المجتمعات التي تقدّس الحرية، حتى القضاء هناك يتردد في إلصاق صفات ثابتة بالبشر، لأن الإنسان كائن يتشكّل ويتغيّر في كل لحظة. لا يحق لأحد أن يحشر إنساناً في خانة كأنما هو صنم من حجر. فكيف نقبل نحن أن نحصر أنفسنا في قوالب صنعها الخوف، أو العادة، أو خطابات جوفاء تكرّر ذاتها؟

 

أفظع ما نرتكبه بحق أنفسنا هو أن نقيس العالم بمسطرة محلية، كأن معاييرنا — التي ربما لا تصلح حتى لعلاج أوجاعنا الداخلية — صالحة لفهم الكون بأسره. حين نفعل ذلك، نظل نكرر أخطاءنا حتى نصير أسرى السراب، نحيا في ظلال الوهم، غير قادرين على التمييز بين الضوء والعتمة.

 

نحن، في حقيقة الأمر، سجون متنقلة. نحمل قضباننا في جيوبنا، وننصبها حول الآخرين كلما خالفونا في الرأي أو اختاروا درباً غير دربنا. نرفع صوتنا مطالبين بالديمقراطية، بينما في أعماق قلوبنا يستقر استبداد خفي. نؤرشف حياة بعضنا البعض كأننا أجهزة استخبارات سرية، نلاحق الكلمات والاختيارات والظنون، ونحاكمها في محاكم داخلية لا يعصم أحد من قسوتها.

 

سألني صديق ذات يوم، حين كانت أقدارنا معلّقة على أبواب التغيير:

«أتظن أن سقوط الطغاة كفيل بأن يبدّل حياتنا؟»

قلت له: «لو كان الطاغية وحده أصل الشر، لكان اقتلاعه كفيلاً بأن يزهر الربيع في اليوم التالي. لكن الطغيان ليس شخصاً، إنه فكرة تستوطن العقول والقلوب. لا تسقط الفكرة بسقوط صاحب الكرسي، بل تحتاج زمناً طويلاً لتتعرّى وتذوب.»

 

لن نستطيع عبور الظلام إلا حين نسمح لأنفسنا أن نراها بعيون الآخرين — بعيون لا تحمل جروحنا ولا أثقال حروبنا ولا عطب ذاكرتنا. ففي عيون الغريب، قد نعثر على صورة أكثر صدقاً لنا مما نظن أننا نراه في مرآتنا المليئة بالخدوش.

 

عندها فقط، قد نتعلم أن نرى الحياة بحجمها الحقيقي، وأن نتحرر من أسوارنا الصغيرة التي بنيناها حول أرواحنا بأيدينا. ذلك هو الطريق كي نرى أنفسنا… حقاً.

المشـاهدات 398   تاريخ الإضافـة 09/07/2025   رقم المحتوى 64651
أضف تقييـم