الإثنين 2025/7/14 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
السماء صافية
بغداد 42.95 مئويـة
نيوز بار
غضب هادئ وتمرد مؤجل تأملات في قصيدة (البيت حقيبة سفري)
غضب هادئ وتمرد مؤجل تأملات في قصيدة (البيت حقيبة سفري)
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

للشاعرة دلال جويد

ناظم ناصر القريشي

 

"البيت حقيبة سفري يسافر معي دائماً" – بهذه الجملة التي تشبه الهمس تفتتح دلال جويد نصّها، وتضع القارئ فوراً داخل نَفَس أنثوي يتأرجح بين التذمر والتأمل، بين الطاعة والتمرّد، بين رتابة الواجب اليومي ورغبة الهروب الهادئ. لكنّ ما يبدو سطراً عابراً هو في الحقيقة مفتاحٌ تأويليٌ لنصٍّ يرفض أن يكون محايداً، بل يشتغل كأداة كشف، وفضاء صدق، ومرآة لعلاقة مضطربة بين المرأة و"البيت" بوصفه سلطة رمزية. ورغم أن النص لا يلتزم شكل القصيدة الموزونة، إلا أنه يحتفظ بجوهر شعري عميق يستمد طاقته من الإيقاع الداخلي واللغة المشحونة

 

اللغة المتحركة: إيقاع اليومي وتموّج المعنى

ما يلفت في هذا النص ليس فقط ما تقوله الشاعرة، بل كيف تقوله. اللغة هنا ليست ثابتة، بل متحركة – تتحول من نبرة إلى أخرى، من بساطة ظاهرية إلى عمق رمزي متخفٍ.

•       "أكسر صحنا أو صحنين لم يعجبني شكلهما": جملة قد تُقرأ على أنها عفوية، لكن فيها رفضٌ ضمنيٌ لشكل الحياة المعلّب.

•       "أرمي في القمامة كل ما يحتاج جهدا إضافياً": تبدو كسلوك منزلي، لكنها إعلان تحرري من كل ما يُتعب المرأة اجتماعياً أو نفسياً.

بهذه الطريقة، تُفعّل دلال لغة منزلية ذات شيفرة مزدوجة: تقرأها ببساطة، لكنك تكتشف لاحقاً أنها مشحونة بما يشبه التمرّد المؤجل.

 

الشيفرة الإبداعية: اللعب مع الصورة النمطية

الجوهر الإبداعي لهذا النص يكمن في قدرته على تخريب الصور النمطية دون أن يصطدم بها مباشرة. فهو لا يرفع شعاراً نسوياً صارخاً، ولا يصوّر البطلة ضحية. على العكس، البطلة هنا "مطيعة"، لكنها تكسر الصحون؛ "تحب الطبخ"، لكنها لا تؤمن أن البيت وظيفة أنثوية؛ "تلمّع المرايا"، لكنها تلاحظ أن مرآة صديقتها أكثر لمعاناً.

هذه التناقضات ليست عيوباً بل هي رموز لبنية النص الإبداعية: كل جملة تبني صورة ثم تهدمها، كل سطر يُعلن توافقاً ظاهرياً لكنه يخفي تمرّدا صامتاً.

إنها كتابة تحتوي التمرّد وتؤجله، لكنها لا تلغيه.

 

الرفض الصامت: البيت ككائن مزعج

في خاتمة النص، يتحول البيت من فضاء روتيني إلى كائن قابل للركل والطرد:

"أغضب عليه، أركله، أدحرجه بعيداً إلى الشارع..."

هذا ليس فعلاً درامياً بقدر ما هو صورة دقيقة لمزاج المرأة المعاصرة: تُحب التفاصيل المنزلية، لكنها تكره ما تفرضه عليها من أن تكون "كاملة" طوال الوقت. هي لا تهرب من البيت بل من الصور الجاهزة المرتبطة به.

 

النص كوثيقة أدبية للأنوثة اليومية

هذا النص، بتركيبته النثرية الحرة، لا ينتمي إلى قصيدة تقليدية، لكنه قصيدة وجودية مكتوبة بلغة الغسيل والمرايا والفواتير. القصيدة التي لا تبحث عن الإعجاب، بل عن قول الحقيقة.

هو نموذج لما يمكن أن نسميه بـ**"الكتابة النسوية اليومية"**:

كتابة لا تحتاج إلى تظاهرات أو خطابات، بل تكتفي بكوب مكسور ومرآة باهتة وزهرة غائبة لتقول كل شيء.

 

القراءة الموسيقية: إيقاع الصفنة والصحون المكسورة

رغم أن النص لا يتبع وزناً شعرياً، إلا أن له إيقاعاً داخلياً، يتمثل في تكرار النمط السردي – جملة قصيرة، فعل منزلي، ملاحظة ساخرة، تراجع، صفنه.

إنه إيقاع التكرار اليومي الذي يشبه موسيقى المينيمالية (Minimalism):

•       الجملة تبدأ بحالة ("أنا امرأة طيبة")

•       تدخل حركة ("أكسر صحنًا")

•       ثم قرار غير متوقع ("لم يعجبني شكله").

بهذا التكرار تتشكل نغمة لا تُسمع بل تُشعر، وكأن القارئ يمشي داخل لحن يومي، لا صوت فيه سوى حفيف التفاصيل المألوفة... صفنه طويلة تُكسر بصوت صحن، ثم صمت، ثم تنهيدة، ثم وميض مطبخ.

 

القراءة التشكيلية: السطوح المتكررة... والمرايا الرمادية

النص يمكن تخيله كلوحة تشكيلية من المدرسة المفاهيمية (Conceptual Art) أو الواقعية الرمزية، حيث لا ترسم الشاعرة الأشياء لتعرضها، بل لتعيد تفكيك رموزها:

•       المرايا: ليست مرآة فقط، بل انعكاس شعورها بالنقص أو المقارنة.

•       الصحون: ليست أداة مائدة، بل رمز للرغبة في كسر النمط.

•       السجاد: سطح ممتد، يُكنّس حيناً ويُستبدل حيناً آخر، كامتداد رمزي للملل والتكرار.

إنه نص يُرسم أكثر مما يُقرأ. يمكن تخيّله كتركيب بصري في غرفة مفروشة بنصف مجهود، بمرايا باهتة، وزهور غائبة، وامرأة تقف في الزاوية، تكتب بقلم من بخار الغضب الهادئ.

 

القراءة السينمائية: مونولوج داخلي داخل بيت متحوّل

من الناحية السينمائية، يمكن أن نُصوّر النص كله كـفيلم قصير من لقطة واحدة (One Shot)، تُرافق فيه الكاميرا البطلة في بيتها وهي تتحدث وحدها، تُنظف، تكسر، تطبخ، تضحك، ثم تجلس... كل ذلك بلغة قريبة من أفلام الموجة الجديدة الفرنسية أو سينما المرأة العربية المستقلة.

•       الإضاءة: طبيعية، ناعمة، باهتة.

•       الكاميرا: تتحرك ببطء داخل الغرف، تقف أمام المرايا، تنظر عبر النافذة، تقترب من الصحون.

•       الصوت: صوت داخلي (Voice over) ترويه البطلة بنبرة هامسة، غير درامية، لكنها آسرة.

نهاية الفيلم ستكون تلك اللحظة التي تقول فيها:

"أغضب عليه، أركله، أدحرجه بعيدًا إلى الشارع..."

فنراها تغلق الباب، تخرج إلى الضوء الخارجي، وتجلس على الرصيف، بلا حقيبة، بلا بيت، بلا تمثيل.

 

خاتمة: حين تتحوّل القصيدة إلى عمل فني شامل

ما يجعل هذا النص استثنائياً هو قابليته لأن يُعاد توليده بصيغ فنية مختلفة، لأنه لا يكتفي بالقول، بل يبني مزاجاً، ولحظة، وتوتّراً.

إنه نصّ يمكن سماعه كأنشودة، ورسمه كلوحة، وتصويره كفيلم، وقراءته كحياة... وهذا هو الشعر حين يتجاوز الشكل ليصبح تجربة حسية متكاملة.

اللغة هنا لا تتأنق، لكنها تنزف.

الصورة لا تتجمّل، لكنها تصرخ من الداخل.

والكتابة لا تزعم البطولة، لكنها تفضح هشاشة البطولات اليومية.

في نص دلال جويد، نكتشف أن الشعر ليس في الكلمات الكبيرة، بل في الاعترافات الصغيرة التي تُقال دون اعتذار.

إن كتابة كهذه تُعيد رسم خريطة الشعر، لا في الأبنية اللغوية، بل في القدرة على اقتناص الشعر من قلب التعب، ومن فوضى الأدوار المفروضة

المشـاهدات 27   تاريخ الإضافـة 14/07/2025   رقم المحتوى 64749
أضف تقييـم