الخميس 2025/7/31 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 41.95 مئويـة
نيوز بار
حين تذبل السنابل
حين تذبل السنابل
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب د.لمياء موسي
النـص :

 

تحية طيبة لكم، أيها القراء الأعزاء من أبناء الشعب العراقي العريق.أفتح معكم اليوم حديثًا في غاية الأهمية، حديثٌ قد لا يكون غريبًا عليكم، بل لعله مفتاح نهضة أيّ أمة وسرّ حضارتها: الزراعة.فلا تقوم حضارة، ولا ينهض شعب، إن لم يمتلك القدرة على إطعام نفسه. وأيُّ دولةٍ تفقد أمنها الغذائي، تفقد بالضرورة استقلالها، وتصبح رهينة للغير، مهما بلغ فيها العمران وتكدّست فيها الأموال.وليس العراق بعيدًا عن هذا المعنى، بل لعله أول شاهد عليه. فوفقًا لعلماء الآثار، كان العراق – وتحديدًا أرض ما بين النهرين – أول موطن للزراعة في التاريخ البشري. ومن هنا، تكتسب الزراعة في العراق مكانة حضارية وتاريخية لا يمكن إنكارها، إذ تمتد جذورها إلى آلاف السنين، يوم كان العراقي القديم يفلح الأرض ويبتكر أنظمة الري، ويحوّل الطين إلى سنابل.لكن ما يؤلم اليوم أن نرى هذا القطاع الحيوي يترنّح، وأن بلدًا تجري في أرضه أعظم أنهار العالم، دجلة والفرات، يستورد غذاءه من الخارج. فكيف وصلنا إلى هذه النقطة؟ وأين تلاشت خبراتنا الزراعية؟ ما الذي حدث؟ ومن المسؤول؟نحن الآن لا نملك ترف البكاء على الأطلال. فقد آن الأوان أن ننظر إلى الواقع بوعي ومسؤولية، وأن نطرح الأسئلة الصعبة، لا لنتخاصم، بل لنعالج ونتقدّم.إنني أكتب اليوم لا لأُذكّر بالمجد الغابر فقط، بل لأدعو إلى استعادته، عبر عمل جاد، ورؤية وطنية، تبدأ من استصلاح الأرض، ودعم الفلاح، وإحياء مشاريع الري، وبناء سياسة زراعية تحرّر العراق من التبعية، وتعيد له مكانته كأرضٍ تُطعم لا تُستَطعم.يُعدّ الأمن الغذائي من أبرز القضايا الاستراتيجية في جميع بلدان العالم، إذ لا يمكن تصوّر السيادة الوطنية دون قدرة الدولة على تأمين قوت شعبها.وبالرغم من أن العراق يمتلك من المقومات ما يجعله في مقدّمة الدول الزراعية، كالأراضي الخصبة، والأيدي العاملة الوفيرة، وتوفّر المياه ورؤوس الأموال، فإن هذه الإمكانيات الهائلة بقيت – منذ العام 2000 وحتى اليوم – غير مستغلة بما يخدم مصلحة البلد.يمتاز القطاع الزراعي في العراق بتنوّع تضاريسه واختلاف مناخه من الشمال إلى الجنوب، وهو ما يتيح تنوّعًا في البيئات الزراعية، ويؤهله لإنتاج باقة واسعة من المحاصيل والمنتجات. لكن الواقع يروي قصة مغايرة، حيث يشهد هذا القطاع تدهورًا مستمرًا نتيجة جملة من التحديات.فمن جهة، أفضى تردّي الوضع الأمني إلى تدمير الكثير من الأراضي الزراعية والبُنى التحتية المرتبطة بها. ومن جهة أخرى، ساهمت السياسات الزراعية المرتبكة، والفساد المالي والإداري، في تراجع ملحوظ في الإنتاجية، بل وانسحاب العديد من الفلاحين من حقولهم، بحثًا عن مهن أقل مشقة وأكثر دخلًا.أما الدعم الحكومي، فغائب أو محدود، لا يرقى إلى حجم التحديات. فقلّة التخصيصات المالية، وضعف احتضان الفلاح ورعايته، جعلت الزراعة مهنة طاردة، لا تستقطب الأجيال الجديدة، بل دفعت بالبعض إلى بيع أراضيهم أو تحويلها إلى مناطق سكنية، في ظل غياب الرقابة الحكومية الصارمة، ما أدى إلى تقلّص الرقعة الزراعية الخصبة.ويزيد الطين بلّة غياب العدالة في توزيع الخدمات الزراعية، التي تتركّز في مناطق دون أخرى، وفق اعتبارات محسوبية ومحاصصة، بدلًا من التخطيط العلمي المتوازن. يُضاف إلى ذلك شحّ المياه والتصحر، بفعل التغيرات المناخية من جهة، والسياسات الجائرة التي تنتهجها دول الجوار المائية من جهة أخرى، دون اتفاقات واضحة تحفظ للعراق حقوقه المائية.أما من الناحية التقنية، فما زال الاعتماد على أساليب ريٍّ تقليدية، يتسبب في ملوحة التربة وتدهورها. كما أن المنتجات الزراعية المحلية لا تجد الحماية الكافية من المنافسة المستوردة، ما يُفقد الفلاحين حوافزهم، ويؤدي إلى كساد إنتاجهم. ويُضاف إلى ذلك نقص الكوادر الهندسية الزراعية المؤهلة، وهو ما يُفاقم ضعف التخطيط والتوجيه الزراعي.كل هذه العوامل، مجتمعة، جعلت من العراق بلدًا مستهلكًا لا منتجًا، رغم ما يمتلكه من ثروات وإمكانات تؤهله لتحقيق الاكتفاء الذاتي، بل والتصدير.إلى الآن لم يتمكن العراق من تحقيق تنمية زراعية مستدامة على أراضيه الخصبة الممتدة بين دجلة والفرات. فالعجز المستمر في الميزان التجاري الزراعي منذ عقود يُعدّ شاهدًا على عمق الأزمة التي يعاني منها هذا القطاع.فبعد أن كان العراق، في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، يتمتع بالاكتفاء الذاتي ويُعدّ مصدرًا مهمًا للعديد من المحاصيل الزراعية، أصبح اليوم يعتمد بشكل كبير على استيراد سلع غذائية أساسية من الخارج. وهو تحوّل خطير في بلد يُفترض أن يكون سلة غذاء لا مستهلكًا دائمًا.إن هذا التراجع لا يعكس فقط قصورًا في الإنتاج الزراعي المحلي، بل يكشف كذلك عن ضعف القدرة التنافسية أمام المنتجات الزراعية الأجنبية، نتيجة غياب الدعم والتخطيط، وافتقار الأسواق المحلية إلى سياسات حمائية عادلة.والأخطر من ذلك، أن هذا الوضع يساهم في استنزاف الاحتياطي النقدي الأجنبي للبلاد، حيث تُنفق مبالغ ضخمة على استيراد الغذاء، في وقتٍ كان من الممكن أن تُضخّ تلك الأموال في تنشيط الزراعة المحلية وتطويرها. وهو ما يدفع بالدولة إلى خيار الاقتراض من الخارج، لتغطية العجز، ما يُقحمها تدريجيًا في فخ المديونية والتبعية الاقتصادية.ويُجمع المختصون على أن النهوض بالقطاع الزراعي في العراق يتطلّب جهدًا حقيقيًا من الحكومة، يبدأ بوضع قوانين جديدة واضحة، مقرونة برقابة فعّالة على تنفيذها، فالقوانين وحدها لا تكفي ما لم تُطبق بعدالة وصرامة.لقد آن الأوان لبدء العمل الجاد لإعادة إحياء هذا القطاع الحيوي. وأولى الخطوات تكمن في تفعيل نظام التسليف الزراعي، وتوجيه الفلاحين وفق خصوصيات كل منطقة، مع توفير الدعم اللازم لهم، من بذور وأسمدة وآلات، بما يساعدهم على استصلاح الأراضي وزيادة الإنتاج.كما أن إدخال التكنولوجيا الحديثة في الزراعة لم يعد خيارًا، بل ضرورة، لما توفّره من جهد ووقت وجودة. ومن المهم كذلك تأهيل الكوادر الفنية وتدريبها على أساليب الزراعة المتقدمة، إلى جانب حماية المنتجات الزراعية المحلية من إغراق السوق بالبضائع المستوردة، حفاظًا على التوازن وتشجيعًا للمنتج الوطني.ولا بد من التركيز على المحاصيل الاستراتيجية، واستقطاب الاستثمارات الداخلية والخارجية لتنفيذ مشاريع زراعية مستدامة تواكب التحديات.أما عن المياه، وهي عمود الزراعة الأول، فلا يمكن تجاوز أزمتها إلا من خلال تدريب الفلاحين على أنظمة الري الحديثة، وتنفيذ مشاريع بناء السدود والخزانات، وتفعيل برامج إصلاح الأراضي ومكافحة التصحر والملوحة. كما أن التفاهم مع دول الجوار حول توزيع عادل للمياه بات مسألة وجودية، لا تحتمل مزيدًا من التأجيل أو المجاملة.وفي نهاية المطاف، إذا أردنا حاضرًا أفضل لأنفسنا، ومستقبلًا مشرقًا لأبنائنا، فلا بد أن تتكاتف الدولة بسياساتها، والشعب بإرادته، والمؤسسات بعملها، لنضع العراق على الطريق الصحيح نحو الاكتفاء الذاتي الزراعي، ونحو أن يعود بلدنا مصدرًا للغذاء وجاذبًا للاستثمار.هذا هو الطموح، لكنه لا يتحقق إلا بالعمل الجاد، والخطط الواضحة، والإرادة الصادقة. العراق لا يستجدي غداءه، العراق يزرع… العراق يعطي.فلننهض جميعًا، كأننا فلاحٌ واحد، نفلح ترابنا، ونحمي ماءنا، ونزرع حاضرنا، كي لا يجوع مستقبلنا.

المشـاهدات 173   تاريخ الإضافـة 29/07/2025   رقم المحتوى 65225
أضف تقييـم