
![]() |
مجبل المالكي.. بِنَى تركيبيّة وطاقة إيقاعية |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص :
ناصر أبوعون مجبل المالكي شاعر عراقيّ الشاعر يرتكز في معظم إبداعه على الإيقاع؛ ربّما ليقينه أنّ الإيقاع في سائر صوره أسبق على اللغة؛ بل هو الشرارة الأولى التي تفجّر الإيحاءات الرمزيّة المحمولة على سطح الكلمات داخل القصيدة، وهو يعمل وفق معادلات الانشطار الشعريّ داخل طوايا القصيدة، وينفذ إلى جوهر اللغة، ليوظفّها بُغية تفكيك الرسائل المشفرة والمحمولة على شعرًا في رحم الكلمات. وبمطالعة قصائد مجبل المالكي يشعر القاريء الفطن بأنّ هاجس البناء الفني يطارد الشاعر من مطلع القصيدة وصولا إلى القفلة الأخيرة، وهذه القفلة تحمل من التوتر المؤرق للشاعر، وتشي للقاريء بأن الملكي لم يشف غليله بعدُ وعلى الرغم من الحرية الممنوحة له في الانتقال بين القيم الفنية والمستويات التعبيرية للقصيدة، فيؤلف بين الألفاظ والمعاني، ويعيد بناء التراكيب ويوظّف الدلالات ويستنطق الإيقاع، إلى أن يصل به الأمر إلى إحداث حالة من التصالح الفني والنفسي بين الشكل والمضمون. ويمكننا إدراك هذه الفلسفة في مقطع من قصيدته (أسئلة)، والذي يقول فيه: [ماذا أفعلُ كي أوقظَ في عينيكِ بريقَ الأملِ الأسمى، أُشعلُ جذوةَ هذا العشقِ المدفونِ بجنبيكِ، وأطلقُ سربَ عصافيرَ تغرّدُ فوقَ سماءِ الشفتينْ./ ماذا أفعلُ كي أغرسَ في نبعِ هواكِ ربيعَ شموسٍ لا تخبو في عصفِ مداراتِ الريحِ، وأسرجُ شعلةَ حبٍّ لا يفنى في مسكِ حناياكِ، وأُطفئُ وحشةَ هذا الليلِ المجنونْ]. في قصائد مجبل المالكي نجد الفكرة المركزية هي النواة/المركز، وحولها مدارات ثلاث من البِنَى التركيبية والتي تشع بطاقة إيقاعية متجددة، هي البنية الدرامية، والبنية الحوارية وأخيرا البنية الإيقاعية. فأمَّا (البنية الدرامية)، فقد أفاد مجبل المالكي لتحققها من فن القصة القصيرة الواقعية، ووظّف تقنياتها الفنية، وخلع ثوب الذاتية، وألقى عصا الغنائية، وشرع في بناء قصيدته من الداخل، وضفّر السَّرد بالحكي وشبكه بالمنولوج وركّز على تصوير المشاهد في شكل فلاشات وبقع ضوئية تموضعت في المفاصل الرئيسة للقصيدة؛ بل إنه وظّف استراتجية المفارقة، وهي خصيصة فنية في القصة القصيرة ليصنع نوعًا من الدهشة المُرّة؛ على نحو ما حدث في قصيدته (في الظلّ دائما) التي كتبها احتفاءً بذكرى (ذكرى الشاعر الراحل حسين عبداللطيف) وأثبتها في ديوانه (وشم فوق جبين النخل) ويقول فيها: [تبقى في الظلّ, تعانقُ صمتكَ/ منشغلاً بسواكَ/ وليس بموتكَ منهمكاً أبدَ الدهرِ بغصّةِ هذا الوجعِ الملعونِ, وغبرةِ هذا البحرِ المأفونِ, وعشق امرأةٍ تصبغُ فوديكَ/ بخضرةِ وردِ جدائلها/ فوق ضفافِ البصرةِ / لن تركضَ بعدِ الآنَ/ وراء الطيّاراتِ الورقيةِ/ أو ترقبَ ما ينداحُ على الطرقاتْ. لم تبصرْ أسرابَ لقالقَ/ تبحرُ في عينيكَ طويلاً, تمخرُ ليلَ جنوبٍ/ مفتونٍ بهواكَ/ وحيداً كنتَ, وتبقى] وأمّا (البنية الإيقاعية) فيمكن القبض عليها داخل القصيدة في اللحظات الزمنية الفارقة، وفي المسافة الفاصلة ما بين التهادي والتسارع، حيث تظهر الكثافة اللغوية على سطح الصور الشعرية، والتي تتبدّى لنا في قدرة مجبل المالكي على الانتقال السلس في خطفة عين من الجملة الحوارية إلى الجملة الخبرية وصولا إلى الخاتمة السردية حيث يتباطيء الإيقاع شيئا فشيئا حتى يصل بنا إلى نقطة السكون الأخيرة. ونقرأ هذا في قصيدته (معلقة التراب) التي يقول فيها:[لاتشدوا الرحيلَ المبكّرَ/ مازالَ في الروحِ متسعٌ لارتشافِ الصبابةِ، والحبِّ، والبهجةِ المستظلّةِ في خفقِ أضلاعنا، لا تُطيلوا الغيابْ. المداراتُ من حولنا علّقتْ موتَها، واستحمّتْ بقيظِ السنينِ العجافِ، احتدامِ الكآباتِ، والوحشةِ المستدامةِ. أسرى هنا نحنُ في غورِ تلك المنافي] وأما البنية الحوارية فنعثر عليها في الخطاب الشعري عند مجبل المالكي حيث يتشظّى النص إلى مجموعة من الأصوات، ثم يسحبها بفعل الإزاحة اللغوية إلى أزمنة أخرى غير الزمن الذي يعيش فيه الشاعر أو زمن النص نفسه أو أن يصبح زمن النص هامشا على زمن الشاعر وتركاته النفسية التي تتخذ من الشعر غطاء فلسفيا وعمقا ورؤيويا. وهذه البنية يمكن تتبّعها في سائر قصائد الشاعر. وفي المقطع الذي نستشهد به في هذا المقالة يحيلنا إلى قدرة المالكي على نسج تقنيتي (المنولوج والديالوج) في إهاب واحد عندما يستحضر صورة الحبيبة، ثم يتحد بها، ويتحدث بلسانها، مضفيًا عليها ملامحه حيث يصبح الشاعر والحبيبة نمطا بشريا جديدا لا هو الشاعر، ولا هو الحبيبة، بل هو الشاعر والحبيبة معًا. يقول مجبل المالكي:[من نثار الياقوت/ هبيني السنينَ التي غادرتْ/ واعزفيني نشيداً بهيًا، وغوصي بأعماقِ روحي الجديبةِ/ مثلَ الندى فوق زهرِ الحقولْ. فأنا شاعرٌ مرهفُ الحسِّ/ لا أرتضي أنْ يحزّ الأسى جذوتي، ثمّ تسلمني وحشتي للردى والذبولْ]. |
المشـاهدات 217 تاريخ الإضافـة 03/08/2025 رقم المحتوى 65359 |