
![]() |
مُهَرِّجٌ أَصَمُّ |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص :
مروان ياسين الدليمي
كنتُ — وما زلتُ — مثل بائع خردةٍ قديم؛ أجمع الكلمات كما تُجمع العلب الفارغة من الأزقة. بعضها يلمع للحظة، ثم يخبو. بعضها يصدأ قبل أن يمسّه القارئ.تجاوزتُ الخمسين، وهذا العمر يشبه سوقًا خاوٍ بعد انفضاض الزبائن: بقايا خضار ذابلة، أوراق جرائد مبتلّة، صدى أصواتٍ لم يعد أحدٌ يصغي إليها.في بيتي، امرأة تذبل ببطء تحت نصل المرض — سبع سنوات وهي تتحوّل إلى ظلّها. أنفاسها تقطّع الهواء مثل زجاج مكسور.أحملها كمن يحمل جرة ماء مشروخة؛ تتسرّب بين يديه قطرةً تلو قطرة. كل صباح تنهض وتضع رأسها على الطاولة مثل رغيفٍ يابس، ثم تعود لتتنفس بصعوبة، وكأن الهواء مؤامرة عليها.السرطان هنا ليس مرضًا، بل نصل بطيء يقطعها قطعةً بعد أخرى، وأنا أكتفي بجمع الفتات.وابني؟ شاهدة قبر حيّة على زمن الفساد. شهادة جامعية مُعلّقة كرايةٍ ممزقة. يقف بها أمام أبواب الوزارات مثل متسوّل، ويعود كل مساء بقبضة فارغة، كما لو أن مستقبله ابتلعته بيروقراطية جائعة.يضع شهادته على الطاولة، بجوار الخبز اليابس، ثم يضحك بسخرية لا تشبه الشباب.أنا أكتب.لكنني لا أكتب.أتصرف كبهلوان يحاول أن يصفّق بيدين مقيدتين. الكلمات صارت عملة رخيصة في سوقٍ مزدحم بالضجيج.أكتب وسط جوقة من الأصوات المتنافرة: مذيعون يصرخون، سياسيون يتبادلون اللعنات، شوارع تعجّ بسياراتٍ تتثاءب أبواقها. كأن الوطن كله صار مسرحًا لفرقة سيرك تتدرّب على رقصة العقارب فوق جثة كبيرة تُسمّى "دولة".لكن — ثمة لعنة تسللت من بين أوراقي. كنتُ أكتب عن موسيقار سُرقت أذناه، فانغلق في قبر الصمت. وفيما كنتُ أخط تفاصيله، بدأ طنينٌ رفيع يسكن أذني اليمنى.أول الأمر كان يشبه خيطًا من هواء أسود يلامس غشاء الطبل؛ ثم كبر، تورّم، صار بحرًا داخليًا يفيض فوق جمجمتي.لم يكن طنينًا فحسب، بل مهرّجًا صغيرًا جلس على كتفي وبدأ يقرع طبله الداخلي. كلما حاولت أن أكتب جملة، ضرب على طبله وقال: «لن تنجو».ذهبتُ إلى الطبيب. جلس مثلي كقاضٍ يقرأ حكمًا لا استئناف له: "الأعصاب تالفة. لا دواء" .الجملة سقطت عليّ مثل حجر في بئر فارغ — ارتد صداها في داخلي بلا نهاية.ضحك الطنين بصوتٍ أعلى، رقص فوق الطاولة البيضاء، ولوّح لي بمناديل جنازة.الطبيب لم يره؛ الأطباء لا يرون المهرّجين الذين يسكنون آذان مرضاهم.من تلك اللحظة لم يعد الصمت صديقي. انقلب إلى وحشٍ يلتهمني من الداخل.تحوّل إلى ميدان إعدام تُقام فيه حفلات التنكيل. كنت أظن الصمت حدائق زجاجية — زقزقة العصافير قصائد شفافة، وخرير الماء تراتيل ملائكية.الآن صار الصمت مقصلة؛ هاوية سوداء؛ أصوات تتفتّت إلى شظايا تخدش أغشية روحي.العالم انكسر. كل نغمة فيه مشوّهة، كأن أحدهم ينفخ في مزمارٍ مكسور.أجلس أمام الورق، والقلم يرتجف في يدي مثل طفل مصاب بالحمّى.أسأل نفسي: هل ما زلت أكتب؟ أم أنني أحفر قبري في كل سطر؟أكتب وأنا أتصرف كالمجرمين الذين يحفرون أنفاقًا للهروب — لكن كل جملة تتحول إلى جدار آخر.الطنين يتضاعف. يصفّق. يضحك.أحيانًا يلبس وجه سياسي فاسد، أحيانًا وجه صحفي كاذب، أو يتحول إلى قاضٍ يلوّح لي بالحكم الأخير.وأحيانًا أراه طائرًا أسود يرفرف فوق رأسي، يحدّق بعينين من جمر. أتخيله يقترب، يفتح منقاره، كأنه ينتظر اللحظة التي أسقط فيها.أنظر إلى زوجتي: وجهها كتاب من الألم، كل تجعيدة فيه فصل من معركة طويلة.أنظر إلى ابني: عيناه مرايا غائمة تعكسان أحلامًا مهشّمة.أما أنا، فلم أعد كاتبًا؛ بل شخصية عالقة في رواية لا تُغلق، تتلوى بين سطورها لعنةٌ لا تنتهي.صرت دمية في عرضٍ هزلي، الطنين فيه المخرج، وأنا الكومبارس الذي يُسقط كل ليلة في حفرة لا تنتهي.الصمت لم يعد هدوءًا؛ الصمت صار عدوّي.وأنا — مثل طائرٍ مكسور الجناح — أحاول أن أطير في سماءٍ بلا مخرج.الصمت لم يعد صمتًا؛ صار قفصًا معدنيًا أُغلق عليّ، والمفتاح في يد مهرّج أصم يخاطب الجمهور:" لن ينجو أحد من ضجيجي.لا الكاتب؛ لا زوجته؛ لا ابنه؛ لا أنتم.أنا الطنين،أنا الراوي،أنا من سيغلق الكتاب " .وأنا، مثل ديكٍ مقطوع الجناحين، أواصل الصراخ حتى يضحك الجمهور.
|
المشـاهدات 57 تاريخ الإضافـة 31/08/2025 رقم المحتوى 66165 |