السبت 2025/9/6 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 31.95 مئويـة
نيوز بار
أزمة العقل العربي وإشكالياته
أزمة العقل العربي وإشكالياته
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب رياض الفرطوسي
النـص :

كلما ازددنا وعياً بمصائرنا الراهنة، ازدادت الأسئلة ثقلاً في أعماقنا: لماذا لا يُنتج العرب معرفة مؤثرة في العالم؟ لماذا لم تتحول جامعاتنا إلى قلاع بحثية تصنع المستقبل؟ لماذا لا تزال السياسة العربية، وفي مقدمتها السياسة العراقية، تعيد إنتاج نفسها على نحو مأزوم، كأنها تدور في حلقة لا مخرج منها؟

 

ليس الجواب في ضعف الإمكانات المادية ولا في شحّ العقول الفردية. فالتاريخ يعجّ بأسماء عربية لامعة، أثبتت أن العقل العربي قادر على النبوغ متى ما وجد البيئة المناسبة. لكن العلّة الأعمق تكمن في البنية الذهنية نفسها، في ذلك النسيج الذي صاغه التاريخ الطويل للثقافة العربية والإسلامية، وأنتج ما يمكن تسميته بـ "العقل الجمعي". هذا العقل لم يُبنَ على التجريب والدقة، بل على البيان والقياس، ولم يتعلم أن يسائل الواقع بقدر ما اعتاد أن يكرّر النموذج الأصلي ويقيس عليه.

 

العقل العربي ظلّ مأخوذاً بالوفرة اللغوية على حساب الصرامة المفهومية، مأخوذاً ببلاغة الخطاب أكثر من دقة المفاهيم. اللغة عنده مجال للمباهاة في تعدد الأسماء، لا أداة لضبط المعاني. وهذا ما جعله عاجزاً عن اللحاق بعقل علمي لا يقبل الترادف ولا الغموض، عقل يحتاج أن يكون لكل مصطلح معنى واحد محدد.

 

ثم جاءت هيمنة القياس لتزيد الطين بلة؛ فبدلاً من أن يكون العقل فضاءً للاجتهاد والاكتشاف، صار آلة لإعادة إنتاج ما سبق. الفقهاء قاسوا على الصحابة، واليساريون قاسوا على موسكو أو هافانا، والإسلاميون قاسوا على الماضي الموروث، والنتيجة واحدة: عقل يعيش في ظل نموذج أول لا يجرؤ على تجاوزه.

 

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تسلطت على الوعي هواجس المسموح والممنوع، فصار كل جديد يُستقبل بميزان الفتوى قبل ميزان التجربة. ظهر التلفاز فسُئل: حلال أم حرام؟ ظهر الهاتف فكان السؤال ذاته. حتى اللباس لم يسلم من محاكم التفتيش اليومية. بهذا انشغل العقل بالمباح والمحرّم عن السؤال الجوهري: ما حقيقة هذا الجديد؟ ما قيمته؟ كيف يعمل؟ وأي أثر سيترك في الحياة والمجتمع؟

 

هذه البنية المأزومة للعقل لم تبقَ حبيسة الثقافة العامة، بل انتقلت إلى السياسة لتعيد إنتاجها في شكل أكثر حدة. العراق مثال حيّ على ذلك. فمنذ تأسيس الدولة الحديثة وهو يتأرجح بين أنساق فكرية وسياسية متناقضة، لكنها جميعاً أسيرة المنطق نفسه: منطق القياس على نموذج أول، ومنطق الانشغال بالشكل قبل الجوهر. فحزب البعث قاس تجربته على "أمجاد الأمة" وصار أسير خطاب قومي لا يرى الواقع، والمعارضة التي جاءت بعده قاست وجودها على "المحاصصة الطائفية والقومية " وتأثر بعض اطرافها بالخارج، من دون أن تبتكر صياغة عراقية حقيقية. أما لغة السياسة، فامتلأت بالترادفات الرنانة والشعارات الفضفاضة: "الوطنية"، "المقاومة"، "المشاركة"، لكنها بقيت بلا مضمون محدد، تتحرك في الفراغ أكثر مما تتحرك في الواقع.

 

العقل السياسي العراقي اليوم مرآة لهذه الأزمة. فهو عقل يستنفر طاقاته في السؤال عن الولاءات والهويات المذهبية والعرقية أكثر مما ينشغل بصياغة مشروع دولة. عقل يقيس الحلول على تجارب مستوردة أو على مرويات الماضي، ولا يملك الشجاعة ليصنع تجربته الخاصة. وهو أيضاً عقل مأخوذ بالرموز والطقوس، عاجز عن تحويلها إلى مؤسسات فاعلة أو رؤى عملية.

 

إن الحديث عن أزمة العقل العربي، إذاً، ليس ترفاً فكرياً ولا تنظيراً بعيداً عن الواقع. إنه محاولة لتشخيص الجذر الذي يُنتج كل هذه الإخفاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وإذا لم نعترف بهذا الجذر، فلن يكون بمقدور العراق ولا أي بلد عربي أن يخرج من دوامة التكرار.

 

المطلوب هو تربية عقل جديد، عقل لا يهاب السؤال ولا يكتفي بالقياس، عقل يتعامل مع اللغة كأداة دقيقة لا كزينة بلاغية، ويستقبل الحداثة كسؤال معرفة لا كفتوى إباحة أو تحريم. عقل يعيد الاعتبار للتجريب، للنقد، وللخيال المنتج، لا للخيال الهارب. عندها فقط يمكن أن نتحدث عن مشروع معرفة، وعن سياسة قادرة على أن تتجاوز مأزقها التاريخي.

المشـاهدات 66   تاريخ الإضافـة 04/09/2025   رقم المحتوى 66312
أضف تقييـم