الأحد 2025/9/14 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 24.95 مئويـة
نيوز بار
إيقاع الأبوذية وأوزان الشعر الفصيح
إيقاع الأبوذية وأوزان الشعر الفصيح
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

 

أ.د. صبري مسلم حمادي

 

أستاذ اللغة العربية في قسم اللغات الأجنبية بكلية واشتناو- ميشيغان

أستاذ الأدب الحديث في جامعة الموصل وجامعة ذمار سابقا

        ولا يبتعد إيقاع معظم أنواع الغناء العراقي من أوزان الشعر الفصيح أو تفعيلاته، وهذا ينطبق على صياغة النص في الأبوذية العراقية التي نحن بصددها، كما ينطبق على النص في فن الميمر والموال أيضا. ومن الجدير بالذكر أن معظم من كتبوا عن إيقاع بيت الأبوذية نسبوه إلى بحر الوافر وتفعيلاته:

مفاعلتن مفاعلتن فعولن           مفاعلتن مفاعلتن فعولن

بمعنى أن التفعيلة الأساسية فيه تتألف من وتد مجموع (مَفَا) أي من متحركين وساكن، وفاصلة صغرى (عَلَتَنْ) أي من ثلاثة متحركات وساكن، بيد أني وجدت أن التفعيلة الأساسية في أبيات الأبوذية في كل النماذج التي اطلعت عليها، وهي نماذج كثيرة نسبيا، نظمت على تفعيلة مفاعيلن التي تتألف من وتد مجموع وسببين خفيفين (عي + لن). وهذا يعني أن كل شطر في بيت الأبوذية يأتي على النسق التالي:

مفاعيلن مفاعيلن فعولن  

ومعنى هذا أيضا أن كل شطر من أبيات الأبوذية يعتمد على بحر الوافر المعصوبة تفعيلته الأولى والثانية، أي التي أصابها زحاف العصب (تسكين الخامس المتحرك)، وهذا مستكره وغير محبذ في بحر الوافر من وجهة نظر أحمد الهاشمي في كتابه ميزان الذهب، إذ يرد "يجوز في بحر الوافر من التغيير عصب مفاعلتن فتصير مفاعيلن، والعصب يدخلها حتى في العروضة المجزوءة بشرط أن تبقى صحيحة على الأقل مرة واحدة لئلا يلتبس (مع بحر الهزج)، ويجوز استعمال مفاعلتن على وزن مفاعيلن وهو قبيح"

ولو قطّعنا عروضيا بيت الأبوذية التالي لتبين لنا ما نحن بصدده في أن إيقاع أبيات الأبوذية يأتي على نسق بحر الوافر، ويتكرر زحاف العصب في تفعيلاته التي تأتي على مفاعيلن بدلا من مفاعلتن:

 

عليمن منشده فكري وبالي (ذهني)

على اللي سبّب الروحي وبالي (عذابي)

صرت مثل الخشب يابس وبالي (متهرئ)

وحتى النار ما تنشد عليَّهْ

 ويطالعنا هنا قوة التشبيه حين يكون الخشب معادلا شعريا لشخصيته، وفي الوقت نفسه يؤنسن النار في استعارات نادرة لا نجدها إلا في طريف الشعر العربي الفصيح.

وكتابة البيت السابق عروضيا وتقطيعه يكون على الوجه التالي:

عليمن من|شده فكري| وبالي

مفاعيلن|  مفاعيلن|   فعولن

 

عَلَلْليْ سَبْ|بَبرْروْحيْ| وبالي

مفاعيلن| مفاعيلن | فعولن

 

صرت مثلل | خشب يابس | وبالي

مفاعيلن    | مفاعيلن      |فعولن

 

وحتتن نا   |رما تسأل    |  علييه

مفاعيلن   | مفاعيلن    |  فعولن

 

وينطبق هذا على بيت الأبوذية التالي:

جروحي ضيّعت عدها وحدهه (حدودها)

وزماني سيوفه بضلوعي وحدهه (نصلها)

أحس بروحي تسولف وحدها (بمفردها)

شسولف ما عَرِف ضاعت عليه

وهذا البيت من الأبيات التي تتجلى فيها مهارة الشاعر الشعبي وقدرته على اختيار الجناس المناسب، بحيث يجعلنا نتخيل الجروح التي لا حدود لها وسيوف الدهر القاسي التي أفقدت الشاعر صوابه.

وإذا كتبنا البيت كتابة عروضية وقطّعناه عروضيا سيكون على الوجه التالي:

جروحي ضَيْ/ يَعِتْ عَدْها / وَحَدْها

مفاعيلن     / مفاعيلن  /  فعولن

زما نسيو / فبض  لوعي / وحدهه

مفاعيلن  / مفاعيلن  /     فعولن

أحس سبرو / حيتسولف / وحدها

مفاعيلن / مفاعيلن /   فعولن

شسولف ما / عرف ضاعت / علييه

مفاعيلن /  مفاعيلن  /       فعولن

         ومن الملاحظ في أبيات الأبوذية وفي بقية أنواع الغناء الشعبي أن الزحافات والعلل فيها تختلف عن زحافات أبيات الشعر الفصيح وعلله، إذ قد يبدأ بيت الأبوذية بالساكن في تفعيلة مفاعيلن فتصبح فاعيلن، بمعنى أنها تتحول إلى ثلاثة أسباب بدلا من وتد مجموع وسببين، وهذا لا يظهر عند أداء المطرب الشعبي لأنه يكيّف بيت الأبوذية بحيث لا يحس السامع بالخلل العروضي إلا حينما يكتب بيت الأبوذية. ومثل هذا لا نجده في الشعر الفصيح لأن الفصيح يسير على قاعدة أن لا يبدأ بالساكن ولا يقف على متحرك، كما هو معروف.

        وأما الإيقاع الداخلي فإن كثيرا من شعراء الأبوذية يفيدون منه في تعزيز الإيقاع الخارجي المتمثل بالبحر الوافر، والجدير بالذكر أن الجناس سواء أكان من نوع الجناس التام أم الناقص يعد من أنماط الإيقاع الداخلي، ومنه تكرار مفردة أو عبارة أو حرف معين، وهو كثير في الشعر الفصيح. وعلى سبيل الاستدلال نذكر بيت الشاعر البحتري بوصفه نموذجا على الإيقاع الداخلي في الشعر الفصيح عن طريق تكرار حرف معين، ولا سيما أصوات الصفير وأعني بهما السين والصاد:

وحسناء لم تحسن صنيعا وربّما       صبوت إلى حسناء ساء صنيعها

ومن نماذج أبيات الأبوذية التي بالغ شاعر الأبوذية في تكرار حرف الشين البيت التالي:

شوف الجرح يا محبوب شِلّه (خيّطْهُ)

دشوفه وشوف شنهو شبيه شِلّه (ماذا يشفيه)

شدق شفتره شلهي عليه شِلّه (ماذا أضع عليه)

الليالي مو شماته اشتِفَنْ بِيّه

والمبالغة في تكرار حرف معين أو مفردة معينة قد تفقد البيت تلقائيته في بعض الأحيان، ولكنها حين تأتي عفوا فإنها تشتغل على مستويين ، الأول تعزيز الإيقاع الداخلي من جانب ومن الجانب الآخر توكيد المضمون الذي أراد الشاعر إيصاله إلى المتلقي، وهذا مما ينطبق على الأبوذية كما ينطبق على الشعر الفصيح.

        وثمة نماذج كثيرة من أبيات الأبوذية أفادت من الإيقاع الداخلي أسوة بشعراء الفصيح، بيد أن هذا المقال الصغير لا يستوعبها، علما بأن هذا المقال هو الجزء الرابع من دراسة طويلة عن تقنيات النص في الأبوذية العراقية، ويليه جزء خامس إن شاء الله.

       ومن الواضح أن هذا المقال انصرف إلى النص وركز عليه، وفي الأبوذية جوانب أخرى مثل أطوار الأبوذية وأسلوب المطربين في أدائها ولكنها ليست من اختصاص هذا المقال.

المشـاهدات 90   تاريخ الإضافـة 07/09/2025   رقم المحتوى 66416
أضف تقييـم