
![]() |
معجزات مؤجلة |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص : لا ينهض العالم من ركامه إلا حين يقرر أن يقلب موازينه رأساً على عقب، حين تتحول المفارقات إلى قوانين، والمستحيل إلى واقعٍ مألوف. تخيّل صباحاً تصحو فيه لتجد البحر يكتب قصيدة على الرمل، والسمك يصفق طرباً، والريح تتوقف عن العصف كي تُنصت. أو أن التمثال في الساحة يترجل عن قاعدته، ينفض الغبار عن كتفيه، ويخاطب الناس بندمٍ صريح لأنه ظل صامتاً دهراً. عندئذ فقط، قد نشعر أن الإصلاح ليس وهماً.
لكن ما دامت الذئاب تأكل الحملان، وما دام السياسي يزرع وعوداً لا تنبت غير شوك، وما دامت العدالة تبتسم للسارق وتشيح بوجهها عن المسروق، فالحياة لن تكون سوى امتداد طويل للخيبة. ما لم تُعلن الجدران اعترافاتها، وما لم يمنح الموت للناس هدنة يتصالحون خلالها مع الحياة، وما لم يستيقظ الضمير من نومه الثقيل، سيظل كل شيء يسير كما أراده المستبدون: دوائر من الصمت والانتظار.
أمّا رسائل المسؤولين، فهي أكثر نصوص هذا الزمن عبثية. كلمات مصقولة ببلاغة زائفة، وعود مؤجلة إلى أجل غير مسمى، أحلام معلقة لا نرى منها غير السراب. كل خطاب جديد يشبه ما سبقه، لكن النتيجة واحدة. لا نحصد إلا الخواء. وكما نقول بالعراقي: "تقبض من دبش".
وما يزيد المشهد قتامة هو تمسك الديناصورات السياسية بأحلام العودة. كائنات فقدت صلتها بالحياة، لكنها ما زالت تحلم بالسلطة وكأنها قدر لا بد منه. تفصلها عن الشارع أميال ضوئية من الجدران والحواجز والأبواب الموصدة. تعيش في عوالم محصنة، بينما الناس في الخارج يئنون تحت وطأة العوز والخذلان.
المسؤول الواعي وحده يدرك أن القيادة ليست زينة، بل عبء يستدعي عقولاً تضاهيه وعياً وكفاءة. فيأتي برجال ونساء قادرين على الإضافة، مسلحين بالمعرفة والخيال، يفتحون الأفق ولا يكررون الماضي. أما المسؤول الذي يفتقر إلى الوعي، فلا يرى أبعد من صورته الصغيرة في المرآة. يجلب من يشبهونه ضحالةً وعجزاً، أشخاصاً يفتقرون لأبسط مقومات الرؤية، فلا يختارون إلا ما يناسب محدوديتهم. وهكذا تظل المؤسسات أسيرة العشوائية، والاستراتيجيات رهينة المصادفات، والمستقبل محكوماً بالارتجال.
في هذه الفوضى تتشابك الخيوط على نحو يثير الغثيان: النفط يصافح الدم، والمصارف تجاور الأضرحة، والمافيات تكتب أساطيرها بأقلام الشركات، والمخدرات تتوضأ قبل الصلاة. يغيب الحد الفاصل بين البطولة والانتحار، بين الخائن والنزيه، بين المعبد والسوق. وحين تتشابه الوجوه كما تتشابه القطط في الظلام، يفقد الإنسان قدرته على التمييز.
لهذا، إذا لم تقع تلك المعجزات الموعودة، وإذا لم ينقلب هذا العالم على رأسه، فالأجدر بنا أن نتوقف عن مطاردة الأوهام. لا الخطب المنبرية تصلح جروحنا، ولا البلاغة المسكرة تنقذ مصائرنا. ما نحتاجه هو مقاربة جديدة: عقل يواجه الواقع كما هو، لا كما يراد له أن يكون. وإلا سنظل مجرد أرقام في سجلات منسية، أو حكايات مهملة في كتب تذروها الريح.
ومع ذلك، يبقى هناك خيط رفيع من الأمل، أمل لا يشبه اليقين بقدر ما يشبه عود ثقاب في عتمة كثيفة. يضيء لحظة، ثم ينطفئ، لكنه يترك وراءه أثراً صغيراً يكفي لأن يواصل العابرون طريقهم، علّهم يجدوا في نهاية النفق نوراً آخر لا يخبو. |
المشـاهدات 33 تاريخ الإضافـة 14/09/2025 رقم المحتوى 66674 |