الجمعة 2025/10/3 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 26.22 مئويـة
نيوز بار
الفنّ أداةً للخروج من الركود... مهرجان الرور مثالاً
الفنّ أداةً للخروج من الركود... مهرجان الرور مثالاً
مسرح
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

 

سمير رمان

 

بدأت في مدن مقاطعة الرور في ألمانيا فعاليات مهرجان "الرور ترينالي"، أحد أشهر معارض الفنّ في أوروبا. ينعقد المهرجان هذا العام بقيادة المخرج المسرحي الطليعي، الهولندي الشهير إيفو فان هوف، الذي افتتح برنامج المهرجان بمسرحية تقوم على أغنية "I did it my way" للمغنييْن الأميركييْن فرانك سيناترا، ونينا سيمون.المهرجان الذي تأسس قبل ربع قرن، بمبادرةٍ من مخرج الأوبرا البلجيكي المعروف جيرار مورتييه/ Gerard Alfons Mortier، أرسى في أساسه فكرتين رئيسيتين: أولًا، أن تنفذ برامج المهرجان بأكملها في مساحاتٍ صناعيةٍ سابقة في منطقة الرور، وتحديدًا في مباني مناجم الفحم، ومحطات الطاقة، وفي ورشات معامل التعدين، بعد إعادة تأهيلها وفق الحاجات الفنيّة والثقافية، بهدف أن يحلّ الفنّ مكان الصناعات المنقرضة، في محاولةٍ خلق صورةٍ جديدة جذابة للمنطقة، التي تخيّم عليها بعد اندثار صناعاتها غلالة من الكآبة. ثانيًا، ارتأى جيرار مورتييه أن تقتصر فترة ولاية مدير المهرجان السنوي على ثلاث سنواتٍ، من دون تمديد عقده (ومن هنا جاءت تسمية المهرجان، الذي التبست تسميته على كثيرين، الذين يعتقدون أنّ المهرجان ينعقد كلّ ثلاث سنوات). لم يعد المؤسس موجودًا اليوم، ومع ذلك أصبح ينظر إلى قاعدة الثلاث سنوات بمثابة وصيّة، وينظر إليها باعتبارها انعكاسًا لحكمته، التي تهدف إلى أن لا يكون لدى المدير وقت كاف لا للبروز ولا للخمول.بشكلٍ أو بآخر، لا يسع المرء، في حالة إيفو فان هوف، إلا أن يأسف لإصرار الإدارة على البقاء حتى اليوم أوفياء لوصية مورتييه. فالمخرج الفلامندي استطاع اليوم، ولم يمض بعد على وجوده في الرور إلا سنة ونصف السنة، أن يعيد للمهرجان بريقه، الذي بدأ يبهت، وأن يعيد له سمعته العالمية. قرّر أولًا أنّ "الرور ترينالي" يجب أن يصبح، قدر المستطاع، مهرجانًا نموذجيًّا يحتذى به (الأمر الذي يهمّ للغاية المحترفين والخبراء)، وأن لا يبقى فقط تجمّعًا للمشاريع المتنقلة، وثانيًا أراد فان هوف أن يبقى المهرجان منتدىً للفنون، وأن لا يتحول إلى ساحة للنشاط السياسي، أو الأيديولوجي، شأن مهرجاني أفينون وفينيسيا. وبالطبع، يجب وضع معايير لكلّ شيء.هذا لا يعني أنّ برنامج "الرور ترينالي" يقتصر الآن على العروض الأولى للأعمال الفنية الرائجة. ففي المسرحية الراقصة المُعنوَنة بـ"الجميع يعلم ما سيحمله الغد، والكلّ يعرف ما حدث بالأمس"، اقتصر الأداء على ممثلٍ واحد فقط يقف على خشبة المسرح، وهو الراقص التونسي ـ البلجيكي محمد توكابري. يستكشف مؤلف المسرحية بنفسه الرقص، عادًا أنّ جسده هو لغة في حدّ ذاته، وهنا بالتحديد يكمن السؤال الرئيس، الذي يطرحه توكابري على نفسه: هل يحتاج عمله حقًّا للترجمة، أم لا؟ يبدو الراقص وكأنّه يدرس جسده أمام أنظارنا، طالبًا العون في مهمته هذه من لباسه، ومن الضوء، ومن مقاطع من النصّ تشبه إلى حدّ كبير "حِكَمًا" ابتكرها الذكاء الاصطناعي.بدأ توكابري مسيرته، ككثيرين غيره، في مدارس الرقص الحديث الفرنسية والبلجيكية، مع رقص البريك، ثمّ عمل مع الفنان المغربي البارز في عالم الرقص المعاصر، سيدي العربي الشرقاوي، كما درس على يد الفنانة البلجيكية أنّا تيريزا دي كرسماكر. ولهذا تمكّن من إجادة تقنيات الرقص المختلفة، واستطاع خلال ساعةٍ واحدة أن يُظهر ببراعة إمكانياته الفنية الرائعة. أمّا بالنسبة لـ"فلسفة" المسرحية، فيمكن اعتبارها تعليقًا شكليًّا على مفهوم: ثنائية "الشرق- الغرب"، أو كمحاولةٍ لمحو الذاكرة الجسدية، وحتى يمكن النظر إليها كإعلانٍ عن مناورة شخصية بين الثقافات الحالية المتعالية في جوهرها.من حيث الجوهر، لا يمكن مشاهدة عرض افتتاح كهذا إلا في "الرور ترينالي"، ومن إبداع إيفو فان هوف تحديدًا. ويمكن القول بثقةٍ إنّ العرض الموسيقي، حسب هوف: "لقد جعلته على طريقة I did it my way"، فهو الآخر بيانٌ عن ثنائية الشرق ـ الغرب. وإن صحّ التعبير، أيضًا، هو بيانٌ عن "وحدة وصراع الأضداد حسب ماركس". استنادًا إلى أغاني الأميركيين فرانك سيناترا، والممثلة والمغنية نينا سيمون، دعا فان هوف اثنين من مشاهير الفنّ: نجم السينما والمسرح الألماني لارس إيدينغر/ Lars Eidinger، والممثلة والمغنية الصاعدة لاريسا سيرا هيردن/Larisa Herden. لا تتضمّن المسرحية أي نصّ، بل أغاني فقط. وطالما عُرِف المخرج بعدم مراعاته الحدود الفاصلة بين موسيقى البوب وبين الثقافة الراقية، وكدليلٍ على ذلك، يقدّم نوعًا من المسرح الموسيقي. في خلفية منزلٍ أميركي تقليدي مؤلفٍ من طابقين، مغطى بألواحٍ خشبية فاتحة اللون يؤدي ممثلان وأربعة راقصين، وكذلك بطلان "مصغّرين" وأبناؤهما؛ إنّها دراما غنائية عن رجلٍ وامرأة تحكي قصّة حبهما وفراقهما، عن تقاطع دروب حياتهما وانفصالها، عن انجذابهما المتبادل ونفورهما.بشكلٍ أساسيّ، تدعم هيكلية الاستعراض الموسيقي وعناصره الراقصة توزيعات هنري هاي/ Henry Hay الموسيقية فائقة الجودة، التي تؤديها أوركسترا جلس عازفوها على سطح ديكور المنزل. في المنزل، الشخصيتان الرئيستان لاريسا سيرا هيردن، وهي الأبرع في الغناء، ولارس غيدينجر، صاحب الكاريزما اللافتة، الذي بالكاد يجيد الغناء، ويأسر الجمهور بسحر تمثيله. لا يكمن جوهر المسرحية في التنافس بين القدرات التمثيلية، ولا حتى في العلاقة المعقدة بين البطلين، بل في أمرٍ أكثر أهميّة يتجلى في بداية هذه القصّة الخاصّة جدًا، والتي تدور حول المواجهة بين شخصيتين أميركيتين، الأولى "بيضاء"، والثانية "سوداء"، تجسدهما الشخصيات الرئيسية. يبدو الأميركي "الأبيض"، لارس غيدينجر، رجلًا مرتبكًا، منبوذًا، عاجزًا عن القيام بأيّ تغيير، ومرميًّا على هامش الحياة، أمّا البطلة السوداء فهي على العكس من ذلك، نشيطة رصينة، تناضل من أجل حقوقها، ملهمةً مثل المناضل الأسود مارتن لوثر كينغ، ومثل المغنية الأميركية نينا سيمون، تضع المستقبل نصب عينيها. بالفعل، كلا الشخصيتين "فعلتها على طريقتها"، والأغنية وحدها هي التي توحدهما في نهاية الأمر. ومع ذلك، يجب أن لا نستسلم للأوهام، فالطرق المختلفة لا تلتقي أبدًا.

المشـاهدات 58   تاريخ الإضافـة 29/09/2025   رقم المحتوى 66988
أضف تقييـم