الثلاثاء 2025/10/14 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 17.95 مئويـة
نيوز بار
قصة قصيرة "أورجينا" الكاتبة ناهد الزيدي
قصة قصيرة "أورجينا" الكاتبة ناهد الزيدي
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

تونس

 

..قال "رجل الحطبِ" لكريستين: «الآن سأتحدث وأنتِ اسمعي ولا تردّي». فانتابها الصمت، وحرّكت رأسها دلالة على أنها ستسمعه بجوارح قلبها وتصغي إليه.

فقال:

«أنا ابن بائع الكبريت. اسم والدي "كارل" ؛ كان رجلًا شهمًا، ورغم قلّة حيلته إلا أنه لا يقبل الشفقة من أي أحد. كان عنده وقار، يرتدي قميصًا واحدًا طول الشتاء وطوال الفصول، يريد أن يدّخر نقوده لغرض إرضاء احتياجاتنا اليومية، حتى أنّه لا يقبل من أمي أن تخيط له قميصًا جديدًا عند جارتنا "خياطة المدينة'، لأنه يعرف حتمًا أنها ستُهينها بسبب عدم حصولنا على نقود كافية للخياطة.

وكانت أمّي إمرأة لم ترَ عيني لها مثيلًا؛ مجاهدة من أجل صغارها، تفيق كل يوم عند الساعة الخامسة صباحًا، تترك أحلام نومها وتنهض نحو كابوس يقظتها؛ تعجن الخُبز وتُجهِّز طاولة الفطور، فنجتمع حولها. تلك البساطة التي وجدناها في دائرة الخبز لم نجدها في أي رغيف آخر. حتى إننا نبدأ بالضحك ونتحدث إلى بعضنا وفي وجوهنا براءة الأطفال.

ونحن هكذا، تبدأ الأمطار بالنّزول على كوخنا المَصنوع من الخشب والطّين، وتشعل لنا أمي أعوادًا من الحطب لكي نتفادى برد الشّتاء. وفي تمام الساعة السابعة أو السابعة والنصف يخرج أبي إلى شوارع المدينة، وفي وسطه علبة كبيرة فيها أعداد من الكبريت يبيعه إلى أهل المدينة بنصف أو ربع دينار.

وبقيت حياتنا هكذا إلى أن وقعت كارثة جعلت حياتنا ظلامًا حالكًا. في يوم من أيام ذلك الشتاء، ودموع السماء لا تتوقف، نزل الكوخ علينا. وكنت أسمع صوت صراخ أفراد عائلتي إلى أن انقطع الصوت وانقطعت معه الآمال، وبقيت أنا في ذهول وفوقي حطام الكوخ. لم أتأذّ كثيرًا في بدني، سوى بعض الكدمات التّي لازال أثرها واضحًا إلى الآن».

وسكت قليلًا وتنهّد، وترى "كريستين" لا تقدر على التحدث، تنظر إليه بذهول وعيونها تنهار بالدّموع.

 وأكمل حديثه:

«آه على ذلك الزمان الذّي رحلت فيه عائلتي. ذكريات طفولتي لا تزال عالقة في ذهني إلى الآن، لم أتعوّد على النسيان.

في ذلك الوقت، وفي وسط تلك الفاجعة، لا أسمع سوى أصوات الناس من حولي يزيحون من فوقنا ذلك الحطام. كل أفراد عائلتي أصبحوا جثة هامدة إلا أنا، خرجت بسلام ولم أصبح جثة مثلهم. من ذلك الحين فقدت طَعم الحياة ولذاتها، فقدت أطيب رغيف من يد جنة ذلك الكوخ، فقدت سندًا حاملًا هالات الدنيا ومصاعبها لأجل سعادتنا.

أصبحت وحيدًا، هائمًا في شوارع المدينة، من جدار منزل إلى جدار منزل، أجمع الحطب وأبيعه للفقراء مثلي إلى يوم أن صادفتكِ بذلك المكان وأنتِ عائدة من مركز عملك، وبقيت أتحدث إليكِ وتتحدثين إليّ. بعد ذلك اليوم، وبعد درر الكلام الذي صدر منكِ، قررت أن أغير طَعم الحياة وأن أستدعي أيامًا حلوة، أنام وبين جفوني أحلام شتى أريد بلوغها.

وتسألين عن حالي فأجيبكِ: أ تسألين أيتها الغائبة عن الزمان وعن المكان! أ تسألين عن الزمان المظلم الذي يحمل جبال الهالات والوجعات؟

دعيني أحدثكِ: إن الزمان ليس ذلك الذي تفكرين فيه، وليس ذلك الذي نفكر فيه نحن. الزمان هو أمراضنا؛ ليست تلك التي في أبداننا وأجسامنا وقلوبنا، ليست سُكّريًا يُعالج بوخزة إبرة، ليست قلبًا يُعالج بحبة، ليست عظمًا يُعالج بمسحة يد. أمراضنا هي أنا، ونحن، وأنتِ، والجميع، والكل. أمراضنا هي ما فات ومَرّ، ولازلت أنا أكوى به حتى بعد سنين خَلَت».

المشـاهدات 328   تاريخ الإضافـة 11/10/2025   رقم المحتوى 67207
أضف تقييـم