
![]() |
زمن شهيرة |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص :
محمد فيض خالد ما إن وقعت عيني عليها إلا وأصابني الذهول ، توارد سيل الأسئلة يطرق رأسي ، كيف لم تنل منها الأيام، كيف حافظت على رونقها طوال تلك الغيبة؟! ، على بعد خطوات من دكان " الحاج لطيف " ، تسمّرت قدمايّ ، لمحتها تقبض على يد فتاة صغيرة ، تتعثر في مشيتها في ضجر ، ما إن رأتني ، حتى شهقت في اندهاش ،تراخت يدها غير مصدقة ، توقفت تماما عن سيرها وقد زمت شفتيها ، وكلما تقدمت منها ، حتى تتمدد حمرة غطت قسمات وجهها المستدير ، اقتربت أكثر فأكثر لأشعر بفحيح أنفاسها ، لم تترك لي فرصة للتفكير ، أفلتت يد الصبية ، جعلت تمرر راحتها فوق رأسها ، قائلة في حنو :" خديجة ، ابنتي الوحيدة " ، على الفور عبثت يدي في خصلات شعرها الأشهب المسترسل ، لم تعتبر الفتاة كثيرا لوجودي، ظلت عيني معلقة بالوجه المضرج في لهيب المفاجأة ، بعد قليل، حاولت النطق ، تصلب لسانها ، تحشرجت الكلمات في حلقها ، غامت الدنيا في عينيها ، جعلت أُسرّي عنها مستفسرا عن أحوالها ، لكن الصورة القديمة تجسدت من أمامي ، أطلت فتاة الأمس ، فتاتي القديمة التي تزوجت من موسر عجوز ، لتتلاشى أخبارها عن الحارة. تكبرني " شهيرة " بأعوام ، كانت والدتها جارة مقربة لأمي ، تتردد علينا عند كل أصيل ، الابنة الوحيدة لأرملة مات عنها زوجها ، تركها وابنتها ومعاش ضئيل ،جنيهات يسيرة تكفيهما بالكاد ،اتصلت بيننا الأسباب ، وكأن يأسها من حياة اليتم ، أغراها لأن تلقي بنفسها في طريقي ، تترنح كلماتها طربا حين تحدثني ، تخرج أصوات ضحكاتها تشبه نواح السواقي ،مبكرا وعلى غير موعد ، أعطت لنفسها الحق لأن تقود الزمام ، اذهلتني نبرتها الحازمة ، مراسها الشديد ، افعل ولا تفعل ،اربكتني تلك القيود الصارمة ، كبلت إرادتي الصغيرة ،اتشهى اللعب ، الانطلاق مع الرفاق ، اجيبها منكسرا ، وابتسامة جامدة تدغدغ فمها المطبق معلنة :" حان وقت الدرس" ،اشعر وكأنما عيناها تعبث بداخلي، تفتش في جرأة عن أشياء مجهول ، تتمشى حارة فوق قلبي ، تقترب مني في شفقة محتوية جسدي النحيل ، تأخذني بين ذراعيها تلفني لفا ،تغيب في نهنهة طويلة ، تترعرع الدموع بين أهدابها ، في تلك الأثناء تهب رائحة جسدها تملأ أنفي ، تشبه رائحة الأرض المروية ،يتقلص وجهها المحتقن ، يغالب جموحا يضرب روحها ، تتقافز سريعا دقات قلبها في وثبات محيرة، تشغلني عما حولي، اشعر لحظتها بخدر شديد يتدفق في جسدها ، ينبثق من عينيها وميض أخاذ ، تلك النظرات النهمة تأمرني أن استلقي فوق صدرها الرجراج ، تحتبس أنفاسها فجأة ريثما ينطلق مجرورها الحار في زفرة طويلة ، لتنشط من بعدها في فرح. وقتئذ لم أكن لأعرف ما يدور بخاطرها ، قبيل رحليها بأيام طفقت تتفقد اركان غرفتي الضيقة ، تتلمس محتوياتها في شغف مبالغ ،وكأنها تودعها لآخر مرة ، اقتربت على غير عادتها وطبعت قبلة هادئة فوق خدي ، وموجة من السعادة تتحرك في صدرها ،طالعت ذلك الوجه الخمري المشرق المرتسمة معالمه بعناية ، الأنف والشفاه ، العينان والأهداب ، حتى الذقن ظهرت كمثلث مقلوب غاية في الرقة ،ابتعدت قليلا وقد اسبلت جفنيها مرتجفة ، لتقول دفعة واحدة :" سأشتاق إليك " ، جاهدت طويلا لتبدو في سكينتها ، تحركت ناحيتها مأخوذا ، لكنها ادارت وجهها عني خجلة ، مددت يدي لاحتوي وجهها المغضن ، رمت إلي ببصرها في إغماء ، ليتوقف الزمن ويسيل لغابه ، يتأتى هتاف ضعيف من مكان سحيق بلا استجابة ، كي يتوفق هذا الدبيب ، على أمل أن يعود السكون ، امتلأ الجو من حولنا بالشياطين ، تشهر سيوف الغواية ، ليفرغ من بعدها في جوفي رحيقا عذبا. انتبهت لصوت المارة من حولنا ،عادت فتاتها الصغيرة لتململها ،تضرب الأرض بقدمها الصغيرة في تأفف ،أما هي فبقيت صامتة ، قابضة على بدي ، وشهقة تتأتى من أعماقها مترجية ألا أذهب. |
المشـاهدات 29 تاريخ الإضافـة 18/10/2025 رقم المحتوى 67435 |