
![]() |
الطاقة بوصفها حروباً وسلاماً |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص :
بعد الحرب العالمية الثانية، كانت أوروبا تبحث عن وسيلة تضمن ألّا تنزلق مرة أخرى إلى جحيم الدم والخراب. كان السؤال الذي شغل العقول الكبرى في تلك اللحظة هو: كيف يمكن تحويل نيران الحرب إلى دفءٍ يبني لا يحرق؟ وجاء الجواب من حيث لا يُتوقع، من قلب المناجم والمصانع، من الفحم والصلب، أي من الطاقة نفسها التي كانت وقوداً للحروب، لتصبح بعد عام 1951 وقوداً للسلام.
في تلك السنة، وُقّعت معاهدة باريس التي أنشأت الجماعة الأوروبية للفحم والصلب، فكرة عبقرية قُدّر لها أن تغيّر مسار التاريخ الأوروبي. كان المنطق بسيطاً وعميقاً : ما دامت الحرب تحتاج إلى الفحم والصلب، فلنضع هذين الموردين تحت إدارة مشتركة، بحيث يصبح القتال بين فرنسا وألمانيا مستحيلًا لأنهما تتشاركان المصدر نفسه لقوتهما الصناعية والعسكرية. لقد صُنعت أول وحدة أوروبية من رحم الطاقة، لا من رحم السياسة، ومن تلك البذرة وُلد الاتحاد الأوروبي لاحقاً .
لكن الطاقة التي تصنع التحالفات قادرة أيضاً على إشعال النزاعات. بعد عقدين فقط، في خريف عام 1973، تحوّلت الطاقة إلى سلاح سياسي حين أعلن العرب حظر النفط على الدول التي ساندت إسرائيل في حرب أكتوبر. فجأةً أدركت واشنطن والعواصم الأوروبية أن الاعتماد الكامل على النفط العربي جعلها رهينة لقرار سياسي واحد. توقفت السيارات في طوابير طويلة أمام محطات الوقود، ارتفعت الأسعار، واهتزت اقتصادات كبرى لم يكن يخطر ببال أحد أنها قد تُشل بهذه السهولة. في تلك اللحظة، وُلد مفهوم جديد هو "استقلالية الطاقة"، وبدأ الغرب يفكر جدياً في البحث عن بدائل، فظهرت الطاقة النووية، والرياح، والشمس، وأُنشئت الوكالة الدولية للطاقة عام 1974 لتنسيق الجهود وضمان ألا يتكرر درس الحظر العربي مرة أخرى.
منذ ذلك الحين، صارت الطاقة مجالًا لصراعٍ باردٍ وساخن في آنٍ واحد. فكما كانت حروب القرن العشرين تُخاض من أجل حقول النفط والغاز، فإن حروب القرن الحادي والعشرين تُدار من أجل خطوط الأنابيب، وممرات الشحن، ومصادر الهيدروجين والمعادن النادرة. ومع كل أزمة، من أوكرانيا إلى غزة، تعود الطاقة لتكشف ما لم يتغير في السياسة الدولية: أن من يملك مصدر الضوء، يملك القرار.
ومع ذلك، فإن الطاقة لم تفقد قدرتها على أن تكون جسراً للسلام. أوروبا اليوم، التي توحّدت أولًا بالفحم والصلب، تحاول أن تبني وحدتها الجديدة بالطاقة الخضراء، في شراكات تمتد إلى أفريقيا والشرق الأوسط. العالم العربي بدوره يقف أمام مفترق طرق مشابه: يمتلك النفط والغاز والشمس والرياح، ويمتلك في الوقت نفسه الحاجة إلى تنمية وصناعة وتحالفات. فإذا ما استطاعت دولة أن تدير هذه الموارد بعقلٍ جماعي، وأن تنظر للطاقة بوصفها وسيلة للتكامل لا ورقة ضغط، فربما نشهد نسخة عربية من التجربة الأوروبية، اتحاداً لا يُبنى على الخوف بل على المصلحة المشتركة.
لقد كانت الطاقة عبر التاريخ مرآة للإنسان، تعكس ازدواج طبيعته بين البناء والهدم، بين اللهب والنور. هي التي صنعت الحرب والسلام معاً ، وها هي اليوم تعود لتصوغ معالم النظام العالمي القادم. فربما يكون المستقبل لأولئك الذين أدركوا مبكراً أن أمن الطاقة لا يتحقق بتكديس البراميل، بل بتوزيع الضوء. |
المشـاهدات 25 تاريخ الإضافـة 19/10/2025 رقم المحتوى 67507 |

![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |