السبت 2025/10/25 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 24.95 مئويـة
نيوز بار
العين الثالثة
العين الثالثة
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب رياض الفرطوسي
النـص :

 

منذ جئت إلى هولندا، وأنا أتعلم كيف أرى بعينٍ أخرى، ليست تلك التي تحدّق بالعالم، بل التي تراه من الداخل، كأنها عدسة الروح.

 

هنا، في هذا الصمت الشمالي، أدركت أن الرؤية الحقيقية لا تحتاج إلى ضجيج، وأن الإنسان كلما ازداد صمتاً، ازداد وضوحاً.

الكلمات هنا تُوزن قبل أن تُقال، لأنهم يعرفون أن العنف يبدأ من اللسان.

 

حتى في الرفض، اللغة تمشي على أطراف أصابعها:لا يقولون "نكره"، بل "لا يناسبنا"، كأنهم يخشون تلويث الأذن بالغلظة.

 

هذه البساطة الهادئة دفعتني أن أعود بعيني الثالثة إلى بلدي البعيد، إلى العراق.

 

رأيت كم كنا نعيش داخل ضبابٍ لغوي كثيف، لا نرى إلا من خلاله.

 

في مدارسنا تعلّمنا أسماء الأعداء قبل أسماء الأشجار، وفي بيوتنا ورثنا الغضب كأنه وصيّة عائلية.

 

الكراهية كانت تُقدَّم لنا مثل الماء: بلا لونٍ ولا رائحة، لكنها تتسلل إلى الدم.

 

ما زال اللسان الثقيل في الدوائر الرسمية، والوجوه المتجهّمة التي تظن أن الصرامة هي الاحترام، والمعلّمين الذين يربّون الخوف كما يربّون الانضباط.

 

الكراهية عندنا لم تكن فعلًا فردياً، بل نظاماً عاماً ، مثل الكهرباء: لا يراها أحد، لكنها تُشغّل كل شيء.

 

حتى المثقفون — الذين كان يُفترض أن يكونوا شهود الوعي — تلبّستهم العدوى.

 

أغلبهم يكتب بالكراهية لا عنها، يجعلون من الرفض بطولة، ومن السخرية ذكاءً، ومن الغضب موقفاً أخلاقياً .

 

ظنّوا أن الحداثة غضب، وأن التهشيم نقد. وهكذا تحولت الثقافة إلى مرآةٍ أخرى للانفعال الجماعي. لقد نسوا أن الفكر، مثل الموسيقى، لا يزدهر إلا في بيئةٍ تعرف الهدوء. ربما كان علينا، نحن أبناء العالم الممزق، أن نعيد تدريب قلوبنا على المشي، أن نتعلم لغة لا تحتاج إلى خصمٍ لتُثبت نفسها، وأن نربّي في داخلنا عادة الهدوء كما نربّي عادة الأمل.

 

العين الثالثة لا تنظر إلى الخارج فقط، بل تخترق طبقات النفس.

 

ومن ينظر بها يرى أن الكراهية ليست قضية أخلاقية فحسب، بل مرضٌ إداريّ واجتماعيّ، يتغذّى من طريقة إدارة الدولة ومن شكل الخطاب العام.

 

في المدرسة تُمارس بالتمييز،وفي الشارع بالتحقير، وفي الإعلام بالتحريض، وفي الحياة اليومية بالسخرية من المختلف.

 

كل مؤسسة تصنع على طريقتها "عدوّاً صغيراً" يحافظ على تماسكها، لأننا لم نتعلّم بعد أن نعيش بلا خصم.

 

في هولندا، لا يتحدثون عن التسامح كثيراً، لكنهم يمارسونه من غير إعلان.

 

قوانينهم نظيفة لأنها لا تحمل خوفاً، ولغتهم دقيقة لأنها لا تحتاج إلى عنفٍ لتُقنع.

 

هنا، حتى الغضب منضبط، يشبه احتجاج زهرةٍ على الجفاف.

 

وهناك، في عالمنا القديم، الغضب لغة، والصراخ سياسة، والكراهية ديكورٌ يوميّ لا نراه لأنه يملأ المشهد كله.

 

العيش في الغربة يعلّمك أن ترى ما لا يراه المقيم، أن تفهم أن الكراهية ليست في الناس وحدهم، بل في المفاهيم التي تحكمهم:

 

في فكرة "الهيبة" التي تقوم على الخوف، وفي فهم "الرجولة" بوصفها غلظة، وفي تصور "الهوية" كجدارٍ لا كجسر.

 

العين الثالثة لا تلعن الماضي، لكنها تفكّكه.

 

لا تكره الكارهين، بل تحاول أن تفهمهم: كيف وصلوا إلى هنا، ولماذا لا يستطيعون الخروج.

 

أصعب ما يفعله الإنسان أن يطهّر نفسه من إرث الكراهية الذي تربّى عليه.

 

إنها ليست عاطفةً تنطفئ، بل عادة تُقتلع من الجذور.

 

كل يوم أتعلم أن اللطف يحتاج إلى شجاعةٍ أكبر من الغضب، وأن الاحترام فعلٌ فكريّ قبل أن يكون خُلقياً.

حين تُفتح العين الثالثة، تكتشف أن العالم ليس معركة كما أقنعونا، بل شبكة من احتمالات العيش المشترك.

 

في هذه البلاد الهادئة، أدركت أن الحضارة لا تُقاس بالمباني ولا بالدخل، بل بمدى نظافة اللغة من الإهانة. وحين تعود بي الذاكرة إلى المكان الذي انطلقت منه، أفهم أن ما يحتاجه العالم العربي ليس مشروعاً نهضوياً جديداً، بل إعادة تربية للوجدان.

 

أن نتعلم من جديد كيف نتحدث، كيف نختلف، كيف نصغي دون أن نتسلّح بالكراهية.

 

لقد نشأنا في ثقافةٍ ترى في الغلظة هيبةً، وفي القسوة صدقاً، حتى لم نعد نميز بين الموقف النبيل والانفعال البدائي، ولا بين الشجاعة والتنمر.

 

الكراهية عندنا لا تحتاج إلى سبب، بل إلى عادة.

 

إنها مرضٌ وراثيّ تنتقل جيناته من جيلٍ إلى آخر.

 

العين الثالثة لا تنغلق بعد أن تُفتح.

 

هي جرح المعرفة وسحرها في آنٍ واحد.

 

ومن يراها، لا يعود كما كان، لأنه أدرك أخيراً أن الإنسان لا يحتاج إلى أن يحبّ العالم، بل أن يتوقف عن كراهيته.

المشـاهدات 40   تاريخ الإضافـة 25/10/2025   رقم المحتوى 67640
أضف تقييـم