الأربعاء 2025/10/29 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 32.95 مئويـة
نيوز بار
الإنسانية: مرجعية أم وهم؟
الإنسانية: مرجعية أم وهم؟
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب رياض الفرطوسي
النـص :

 

 

في زمن يزداد فيه التعقيد الاجتماعي والسياسي، تبدو كلمة " الإنسانية " كنجمة مضيئة، شعار يرفعه المثقفون والقادة على حد سواء. إنها تبدو كمرجعية أخلاقية عليا، قادرة على توحيد البشر وتجاوز الانقسامات الدينية والعرقية والثقافية. لكن حين نقترب من الواقع، نكتشف أن هذه النجمة تتلاشى عند أول اختبار حقيقي، وأن الإنسانية غالباً ما تكون مجرد وهم يلوح لنا ليطمئن ضميرنا.

 

خذ على سبيل المثال النزاعات العرقية في تركيا أو قوانين الهجرة في أوروبا. هناك، الإنسانية تُرفع شعاراً ، لكنها تتوارى أمام السياسات القومية والمصالح الاقتصادية. السوريون ممنوعون من التعليم الجامعي، الأفارقة يُعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية في دول أوروبية عديدة، وكل ذلك في ظل تصديق مجتمعات أن هذه الدول تحترم قيم الإنسانية. كيف يمكن للإنسانية أن تكون مرجعية إذا كانت قابلة لهذا التباين الواسع؟

 

حتى في الدول الغربية التي تتغنى بالحرية والحقوق، يظهر التناقض. ما كان يعتبره المجتمع "خطأ أخلاقياً" قبل عشر سنوات، أصبح اليوم عادياً، وأحياناً يُحتفى به. وسائل التواصل الاجتماعي قلبت مفاهيم الأخلاق رأساً على عقب؛ الأفعال التي كانت تُعتبر خرقًا للقيم أو فضيحة أصبحت طبيعية، والعادات التي كانت مقدسة تحولت إلى مجرد تقاليد قابلة للتجاهل. هذا التغير السريع يوضح أن الإنسانية، عند اعتمادها وحدها، لا تستطيع توفير معايير ثابتة، فالقيم الإنسانية ليست قوانين جامدة، بل مفاهيم ذهنية تتأثر بالزمان والمكان.

 

حتى العقل والفطرة، اللذان يعتمد عليهما الفكر العلماني واليساري لتحديد الصواب والخطأ، لا يقدمان جواباً مطلقاً. الفطرة تختلف بين الأفراد، والعقل يخضع لتأثيرات المجتمع والسياسة والاقتصاد، والتغيرات الثقافية تجعل ما كان بديهياً بالأمس يبدو غريباً اليوم. الحرية، التي تُرفع كقيمة أساسية، تتحول أحياناً إلى أداة للفوضى، خصوصاً عندما يصطدم مفهومها مع المصالح الاقتصادية أو الثقافية أو مع الأعراف الاجتماعية.

 

الفلاسفة العلمانيون من أمثال إيمانويل كانط وجون ستيوارت ميل حاولوا صياغة قواعد أخلاقية تعتمد على العقل والفطرة كمرجعيات مشتركة للبشر، لكن حتى هذه المبادئ لم تخرج عن دائرة القيم المتفق عليها جزئياً بين المجتمعات. الإنسانية، بحسب هذه القراءة، تصلح كحد أدنى من القيم المشتركة: رفض التعذيب، احترام الحقوق الأساسية، الاعتراف بالآخر، لكنها لا تصلح كمرجعية كافية لتسوية النزاعات الكبرى أو القضايا الخلافية.

 

الواقع السياسي والاجتماعي يظهر بوضوح أن الإنسانية وحدها ليست كافية. العنصرية تتفشى، الحقوق تُهدر، والثقافات تتصارع على النفوذ. الإنسان، حين يُترك له فقط معيار الإنسانية كمرجعية، قد يجد نفسه أمام قرارات صعبة بلا دليل واضح، أو أمام نزاعات لا يمكن حسمها إلا بالرجوع إلى معايير ثقافية أو قانونية أو عقلية أكثر تحديداً . هذا يفسر لماذا، رغم كل الخطابات الإنسانية، لا تزال النزاعات الكبرى مستمرة، ولماذا لا تمنع الإنسانية التمييز أو الظلم.

 

إذا أردنا أن نكون صادقين مع أنفسنا، يجب أن نعترف بأن الإنسانية ليست أكثر من أرضية مشتركة، منصة للحوار بين البشر، لكنها ليست إجابة نهائية على الأسئلة الأخلاقية الكبرى. إنها تتيح لنا الحد الأدنى من الاتفاق على القيم، لكنها تظل ضعيفة أمام القوى التي تدفع بالبشر نحو التحيز والتفرقة. الاعتراف بحدود الإنسانية، والفهم الواقعي لقدرتها ومكانتها، هو ما يميز المثقف أو القائد الواعي عن أولئك الذين يرفعون الشعارات بلا محتوى.

 

إن الإنسان، في هذا السياق، يحتاج إلى مرجعيات أكثر تحديداً : ثقافية، عقلانية، وقانونية. هذه المرجعيات، إذا ما صيغت بعناية، يمكن أن توفر إطاراً مستقراً لتحديد الصواب والخطأ، ولحل النزاعات الخلافية، ولحماية حقوق الإنسان، بشكل يتجاوز الوهم الجميل لكلمة "الإنسانية". وهذا لا يقلل من قيمتها، لكنه يضعها في مكانها الصحيح: أداة للتواصل والحوار، لا مرجعاً مطلقاً لتقرير الأخلاق أو العدالة.

 

في نهاية المطاف، تظل الإنسانية حلماً ضرورياً، لكنها حلم هش يحتاج إلى عقلانية، ووعياً بالحدود، ومرجعيات أكثر ثباتاً، ليصبح فعلاً قوة تغيير، وليس مجرد شعار يُرفع بلا جدوى.

المشـاهدات 36   تاريخ الإضافـة 28/10/2025   رقم المحتوى 67779
أضف تقييـم