| النـص :
لن يبكي الرجال بسهولة الا بعد نفاد كل ما بجعبتهم من مقومات التحمل والصبر الذي فاق وزنه وزن الجبال ولن يرفعوا رايات الاستسلام مادام في اجسادهم عرق ينبض بالحياة . ضل سمير صامدا بوجه الدنيا المتقلبة الاجواء يصارع انيابها الحادة ومخالبها الجارحة واذرعها المفتولة العضلات صار كسد صلد يقاوم موجها العارم الذي تعهد بانكسار صاريتها وابعادها خارج اسوار الافق الممتد - لكنه لم يستطع ثني ذراعه وزحزحة ارادته بل بقي محافظا على توازنه ولم يمد يديه لاحد. سوى رفعهما الى السماء والدعاء جهارا بقلب مؤمن ان يرأف الله بحاله حينما مات والده - واصبحت الحياة لا تطاق داخل بيتهم الصغير اتفق واخوته على بيع تلك الدار التي أوتهم لسنين عديدة واخذ كل واحد منهم حصته من الميراث واشترى له بيتا يحمي عائلته من حر الصيف اللاهب. الا سمير الذي لم يتمكن من شراء بيت سكني صرف وذلك لقلة المبلغ الذي يمتلكه. واضطر بعد جهد جهيد وبحث مضني ان يشتري بيتا من غرفتين متهالكتين صار سقفهن الذي رصف بخشب اليوكالبتوس والحصران المطلية بالطين وكرا للجرذان والعقارب في محلة منكوبة تخلو من كل مقومات الحياة.ورغم كل ذلك كان صابرا على تلك الحياة التي ضلت تحاصره بالعوز وضل يعيش بين سطورها حرفا زائدا يبحث بين ملايين الكلمات عن كلمة تجذبه كالمغناطيس تفتح له ابوابها تضمه الى مملكتها ليعيش كالكلمات النقية التي اخذت مكانها بين اروقة السطور مأذنة سامقة الطول تشرف على الافاق كفنار تهتدي اليه السفن الضالة في البحر..ضل سمير يراوح في مكانه ردحا من الزمن يترقب بزوغ هلال التغيير بين ملايين النجوم المختفية وسط الغيوم المتحركة . يحاول ان يمسك يده يمسد شعره يشكو له معانات البرد في الشتاء وقسوة الحر في الصيف- ويهمس في اذنيه كيف ينام اطفاله الخمسة في الليل وهم يتدثرون بأغطية خفيفة متهرئة الاوصال -وهم يذهبون الى المدرسة بقمصان لا تستطيع صد رماح البرد القارص فينفذ البرد الى رئاتهم التي انهكتها نزلات البرد المتجهمة الوجه القاسية الاطراف. لكنه في الواقع بعيد جدا ولايمكن مسكه الا في الاحلام يتمنى ان يقف بين يديه ويخبره كيف ينام اطفاله في شهر تموز واب حين يصبح الجو كالوحش الجائع يفترس كل شي امامه ويشكو له مهمة التناوب على تحريك المروحة اليدوية المصنوعة من سعف النخيل ولساعات طويلة. وكان يقول لنفسه ان في ذلك أجر عظيم وعندما يكبرون سيردون الدين- في ليلة شتائية ماطرة استمرت لساعات طويلة استطاعت فيها الامطار ان تحول التراب الذي يغطي سطح الغرفة الى طين ولم تكتفي باختراق الحصير المتهالك الذي لم يصمد بمنع المطر النازل الى ارضية الغرفة فراح المطر يتساقط فوق رؤوس الاطفال بقوة -حاول هو وزوجته ان يفعلوا شيئا ولكن من دون فائدة - لكن توقف الامطار فجأة كان بمثابة استراحة للفظ الانفاس واستراحة تزيح التوتر الحاصل نتيجة السهر والخوف من سقوط السطح بترابه على اطفاله فاستغل فرصة توقف المطر وراح ينظف الغرفة من المياه الممزوجة برائحة الطين - وابلغ زوجته بضرورة شراء كمية من التراب ليضعها فوق سطح غرفة النوم لتقف حائلا دون تسلل المطر داخل الغرفة -قاطعته زوجته بأن في ذلك خطر وبيل على سقفها الذي راح يأن من وطأة ثقل التراب الجاثم فوقه - لكنه لم يبالي بما قالته له زوجته - وفعلا ذهب صباحا وجلب التراب ونثره فوق السطح -وبينما كان يسير فوق السطح احس ان شكله قد تغير و راح ينحني الى الاسفل بشكل مخيف كظهر مقوس- لكنه قال لنفسه سيكون كل شي على مايرام وسيؤدي التراب مهمته ويمنع المطر من اختراق السطح- بات سمير وعائلته ليلة اخرى غزيرة المطر غرقت فيها الشوارع وتحولت ساحات المدينة الى بحيرات ممتلئة بالماء - وقبل حلول صلاة الصبح بدقائق نهض من فراشه ليتفقد حال البيت فتاكد ان كل شي على مايرام توضأ ليؤدي صلاته وبعد الانتهاء منها لبس ملابسه وتوجه الى الفرن القريب من بيته ليجلب لهم الصمون حاملا مظلته بيده وبعد ان سار خطوات- تناهشته الافكار بحرابها وراحت توخزه وتؤلمه كثيرا - هل سيصمد سقف بيتي بوجه المطر - متى ساقوم بتغييره بسقف اخر من الكونكريت المسلح بالحديد القادرعلى مواجهة الامطار والاثقال والرياح والشمس المحرقة - وان التجديد سيمنح البيت رونقا وبهاءا وسيفرح به اطفالي كثيرا وسيتباهون به بين اقرانهم - ودعى الله ان يعينه على ذلك- فحالما تجاوز بيته بأمتار سمع دوي بيت ينهار وعندما التفت الى الخلف شاهد ان مصدر التراب المتصاعد يتعالى من بيته-رمى مظلته وركض حافيا كالخائف المرعوب من حيوان مفترس دخل غرفته التي كانت تحتضن اطفاله وزوجته ولم يجد اثرا لهم بعد ان غطاهم التراب والخشب والطابوق. راح يصرخ كمحترق شبت في جسده النيران- هرع الجيران ليشاركوه مهمة انقاذ الاطفال المدفونين تحت التراب وراحوا يرفعون الانقاض الجاثمة فوق اجساد العائلة المنكوبة - فاخرجوا رفات زوجته ثم راحوا يخرجون الاطفال واحدا تلو الاخر- ليضعوهم في فناء الدار - بينما راح المطر الغزير يغسل الاجساد المتسخة بالطين بماءه الطهور - لقد ماتت العائلة جميعها في لحضة واحدة وماتت معهم احلامهم برؤية سقف حقيقي يشعرون تحته بالامان - ببيت يسع الجميع. فيه كل مايحتاجه الانسان قبل ايام رايت سمير جالسا امام داره التي لن يفارقها وهو يحمل وجعه السرمدي الذي لايغيب مطوقا بسمفونية القلق وشراك الفجيعة والالم.. يضحك تارة... ويبكي تارة اخرى. لايعرف احدا غير ملابس اطفاله المعلقة على حبل الغسيل. والغرفة التي خرجت منها ارواح عائلته بهدوء.
|