| النـص :
يُعَدُّ العراق من أكثر النماذج تعقيدًا في المشهد السياسي والإعلامي المعاصر، إذ تتقاطع داخله خطوط الصراع الإقليمي والدولي، وتتجاذبه اتجاهات متعددة في تفسير حاضره ومستقبله. ومع اقتراب كل دورة انتخابية جديدة، تتكاثف التحليلات الغربية والعربية والعراقية في محاولة لقراءة المشهد، وتحديد مسار الدولة بين منطق الحرب والتفكك أو التوافق والإصلاح.وتُظهر المقارنة بين المقال التحليلي المنشور في موقع (مجلس الشرق الأوسط للشؤون العالمية) بعنوان، المرحلة القادمة للعراق، "حرب أم توافق؟"، وبين المقالات المنشورة في مواقع محلية، من بينها مقال لي منشور على صفحتي في فيسبوك تحت عنوان، "هل تقترب الدولة من لحظة الحسم؟"، نموذجًا دالًّا على تباين زوايا النظر بين الخطاب الإعلامي الدولي والخطاب المحلي في تفسير الأزمة العراقية وصناعة الرأي العام حولها.يرتكز الخطاب الإعلامي الدولي، كما تمثّله المقالة الصادرة عن المجلس، على مقاربة مؤسساتية تحليلية تستند إلى أدوات علم السياسة في تفسير التحولات العراقية. فهو يقدّم العراق بوصفه حالة انتقالية محكومة بثلاثة محددات رئيسية:- المحدد الأمني – العسكري: يتمثل في بروز "الحشد الشعبي" كفاعل مزدوج الهوية بين الشرعية الوطنية والانتماء الإيديولوجي الإقليمي، بما يجعله محورًا لجدل داخلي وخارجي حول سيادة الدولة وتوازنها العسكري.- المحدد السياسي – الانتخابي: إذ يرى الخطاب الدولي أن نتائج الانتخابات البرلمانية المقبلة ستحدد ملامح التوازن بين القوى التقليدية والحركات الاحتجاجية الجديدة.- المحدد الجيواستراتيجي: يتمثّل في علاقة العراق بإيران والولايات المتحدة، وما إذا كان سيظل ساحة لتصفية النفوذ أو يتحول إلى نقطة توازن بين المحاور المتصارعة.ويعتمد هذا الخطاب لغة حيادية هادئة، ويتجنّب الانحياز الصريح، مما يعكس طبيعة المقاربة الأكاديمية الغربية التي تهدف إلى صناعة القرار السياسي الخارجي أكثر من اهتمامها بصناعة الرأي العام داخل العراق نفسه.في المقابل، يتبنّى المقال المحلي مقاربة نقدية - إعلامية تنطلق من الداخل العراقي، وتُبرز البعد الاجتماعي والوجداني للأزمة أكثر من بعدها البنيوي. فالخطاب هنا ينتمي إلى فضاء الرأي العام الرقمي، ويستهدف تحريك الوعي الشعبي تجاه مسؤولية النخب السياسية في إنتاج الفشل المتكرر. وتقوم رؤيته على ثلاثة مرتكزات أساسية:- المسؤولية الوطنية: يطرح الخطاب المحلي فكرة أن الأزمة ليست قدَرًا جغرافيًا أو نتيجة تدخل خارجي فحسب، بل هي نتاج قصور داخلي في إدارة الدولة وانقسام الوعي الجمعي.- دور الإعلام في إعادة بناء الوعي: إذ يُنظر إلى الإعلام كأداة لتحرير الوعي من التبعية للمحاور الإقليمية، وكساحة لإحياء الثقة بين المواطن والدولة.- التحوّل من ردّ الفعل إلى الفعل: فالخطاب المحلي يسعى إلى نقل المجتمع من موقع التلقي إلى موقع المبادرة، عبر توظيف الإعلام الحديث ومنصات التواصل في صناعة الرأي العام بدلاً من استهلاكه.وبذلك يصبح الخطاب المحلي أداة مقاومة رمزية ضد احتكار الصورة الإعلامية للعراق في الإعلام الدولي، وضد تسطيح التجربة العراقية ضمن مقولات "الدولة الفاشلة" أو "البلد التابع".وتُظهر المقارنة بين الخطابين أن العلاقة بين الإعلام والسلطة في العراق تتجاوز مجرد نقل المعلومات إلى كونها علاقة إنتاج للمعنى السياسي ذاته. فالخطاب الدولي يسهم في تشكيل صورة العراق في الوعي الخارجي، بما يخدم أجندات التوازن الإقليمي والسياسات الغربية، بينما يسعى الخطاب المحلي إلى استعادة سردية العراق من الداخل، وتوجيهها نحو بناء دولة ذات سيادة ووعي مستقل.من هنا تتجلى جدلية "صناعة القرار" مقابل "صناعة الرأي"؛ فالأول يُمارَس في مراكز البحث والدبلوماسية والإعلام العالمي، والثاني يُنتَج في فضاءات التواصل الاجتماعي والإعلام المحلي. وبين هذين المستويين تتشكل صورة العراق في الوعي الجمعي، داخليًا وخارجيًا، على حد سواء.تداخل المستويين الدولي والمحلي في صناعة الصورة العامة للعراق يجعل من الضروري تحليل الخطابين معًا ضمن حقل الاتصال السياسي.الإعلام الحديث بات أداة لإعادة تعريف الهوية الوطنية بعيدًا عن القوالب الجيوسياسية المفروضة من الخارج.استقلال الوعي الإعلامي المحلي هو الشرط الأول لانتقال العراق من موقع "الحدث السياسي" إلى موقع "الفاعل في الحدث".إنّ دراسة الخطاب الإعلامي من زاويتين – داخلية وخارجية – تفتح أفقًا لفهم كيف يُصنع الرأي العام العالمي حول العراق، وكيف يمكن للإعلام المحلي أن يعيد توجيهه.إنّ المقارنة بين الخطابين تكشف أن معركة العراق الحقيقية ليست فقط سياسية أو أمنية، بل إعلامية بالدرجة الأولى. فصناعة الرأي العام أصبحت اليوم حقلًا تنافسيًا بين روايتين: رواية الخارج التي تفسر العراق بمنطق المصالح الإقليمية، ورواية الداخل التي تسعى إلى استعادة الوعي الجمعي الوطني. ومن هنا تأتي أهمية الإعلام الحديث بوصفه فضاءً لإعادة التوازن بين صناعة القرار وصناعة الرأي، ولتثبيت العراق كفاعل لا كمفعول به في معادلة الشرق الأوسط الجديدة.
|