السبت 2025/11/15 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
السماء صافية
بغداد 21.95 مئويـة
نيوز بار
في الغياب... في رحيل الأستاذ الدكتور صاحب أبو جناح
في الغياب... في رحيل الأستاذ الدكتور صاحب أبو جناح
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

د. رعد السّيفي

  للغياب لغةٌ مقدّسةّ تشبه لغة التّرانيم،لابدَّ أن نلامس حروفها بقدسية الإبتهال،والصّلوات.

مرّةً أخرى يطرق الغيابُ أبوابنا،فنصغي لأنين الحروف التي لانملك غيرها للدّفاع عمّا تجيشُ به الروح،وهي تسفح دموعها من وراء أجفان الوجد.

كم نختصر من الوجع،ونحن نلملم خرائط الأزمنة؛لنبصر امتداد المسافات منذ الخطوة الأولى حتّى بلوغ نهايات الطّريق ؟.

  كم هي محطّات الصّمت التي تقطر حنيناً ؟ومثلها الصّباحات التي حفرت ملامحها بإتقان شديد على جدران الذّاكرة ؟.

كان لخفقة الجناح تحليق في الرّوح التي بقيت فضاءً فسيحاً لتحليقه بين طيورها الأثيرة.فكيف لهذا المداد أن يحيط بكلّ تلك الأرواح ؟.

 منذ ذلك الغبش الآذاري،وأنا أجمع ألواح الكلمات التي قادت خطانا إلى أوّل الدرب.كنّا نحمل أسرارها،ونتهجّى أبجدياتها ،حتى صدحت الحروف فوق الشّفاه،ونما الغرس بين يديها،وهو يحاول أن يجد له مكاناً في زحمة الأصوات،وقد تحقق له ذلك.

أراني أمشي إليك...ناثراً باقات الأزهار بغية انقاذ الفراشات من مجمرة المصابيح !

كان الّلقاء في بصرة الخليل حييّاً ! ولكنه في بغداد_منذ أربعين عاما _ له طعم آخر.فمنذ أن وطأت أقدامك ثرى آداب الجامعة المستنصرية ترسّخ حضورك حجراً في بناء معمار الرّوح،وأسرارها ،وازداد لمعانا مع تقادم الأيام.

 يوم افترقنا... لنعود ثانية،رأيتك تحمل مشعل الضّوء،وتسبر أغوار العتمة على الرّغم من كثافة الجراح التي خرجنا بها بعد عام 1991.

كنت تعيد عليَّ ما حدّثتك به بذاكرة فتيّةٍ لايشوبها النّسيان.يوم احتفيت بك على مائدة الضّوء بعد أيّام من اختيارك لعضوية المجمع العلمي العراقي، كنت تستقرئ الأفق بدقة متناهية بوعي العارف تماما ...ولكن..هي فسحة أتاحها لنا الزّمن لاغير،ونحن نقطع الطريق بين بغداد والبصرة،لتحظى هناك برؤية رفاق الرّحلة القدماء،ونؤثّث ساعات رحلتنا بكلّ ما هو مفرحٌ وبهيج.ولكن...وما أن بدأت الأشواك تعلو ؛ لتدمي الأصابع قبل شبابيك المنزل التي خلعتها طيور الظلام،ولحسن الحظ يومها ،فقد حالت الأبواب المقفلة بينها،وبين التّوغل في براءة الروح ! رأيتك تنأى !،وما كان منك إلاّ أن تسلك طريقاً بعيداً ..هناك حيث شواطئ الشّمال الأفريقي !!.

هناك أقمت طقوس انعتاقك،غير أنّ القلب بقي يتلفّتُ إلى حيث أنغامه،فاتخذت الدّنو سبيلا،لتحلّ في البلاد المنيعة بين حَجّة وتعزّ الحالمة في اليمن السعيد.وكأنّ الطريق يعود ثانية ليجمعنا هناك،وكان لك في إب،حيث أقيم،وأعمل في جامعتها ،محطة أكثرت من التّردّد إليها،فسعدنا باللقاء ،نقّلنا خطواتنا الغريبة بين شوارع إب،وعلى قمم جبالها،واسترحنا في أرجاء صنعاء أكثر من مرّة،وبقينا نحفر أبجديتنا على حجر راسخ في القِدم.حتّى إذا لاح موعد عودتك إلى بغداد،رأيتك تتّخذ من زيارة إب محطة أخيرة،لنمضي يومين معا قبل موعد رحلتك.

عشرون عاما _إلاّ قليلاً _ مضت،وكلّما كلمتك في الهاتف،أو كلّمتني ،وأنت تسألني عن موعد للعودة،أسوة بعدد من أعزّة الروح الذين يسألون !.

يالرهافة روحك،أيّها الطّيب النبيل،فوفاؤك لا حدود له،ومحبتك صادقة صدق أيّامنا في بغداد أو اليمن.

قلّما رأيت شبيها لك في حبّه للحياة،فكنت تغترف من جمال الطبيعة مااستطعت إليه سبيلا بعين محبٍّ عاشق يتماهى مع الأشياء ،وهو بكامل هدوئه ،ودماثته المعهودة،لذا بقي قلبك القوي أسبوعا كاملا يذود عن وجودك في وجه العارض المرضي الذي ألمّ بك !.

فاجأتني في سبتمبر الماضي بأنّ ألماً بدأ يدبّ في الرّوح ! فاتخذت العصا رفيقاً تتوكأ عليه !ضحكت طويلاً...وقلت لك :ربّما لك فيها مآرب أخرى ! لأنني لم أأخذ ما حدثتني

به على محمل الجـَد،وحين هاتفتك بعد إسبوع..أصبح شكّي خوفاً عليك.

غير أنّك سرعان ماتعود إلى سيرتك الأولى في بثّ الفرح مع محدّثيك،تسأل عن الأهل والأصدقاء،وتتفقّد الأحبّة،وتخوض في الإصدارات قديمها،وحديثا.

إتصالان في أكتوبر ..كنت أحسن حالاً،وأقوى عزماً.

كان آخر إتصال بك مساء 14 أكتوبر،تحدثنا طويلا،أخبرتني بمن زارك من تلاميذ الأمس،وعن صديقك الحميم أستاذنا الدكتور سمير الخليل..استحضرنا اقتراب موسم طيور الماء،وحرقتها،والأسى الذي سوف ينتابها حين لا تجد بعد كل هذه الرّحلة الشّاقة،غير بقايا رماد يقطرُ على وجع المسافة  !!.

في 28 أكتوبر،كانت آخر باقة ورد تصلني منك، عبر الهاتف،ترجو بها لمحبيك مساءً سعيداً.

في 29 أكتوبر أخبرني العزيز د.سمير الخليل أنك في المشفى،وفي العناية المركزة.بقيت معلّقا في الهاتف أبحث عن أيّ جديد عنك أو منك !حتى وصلتني بعد ثلاثة أيام صورة لك، ألتقطت من باب مواربة،وأنت تغرق في عزلة تامة !.

صباح 6 نوفمبر انتهى الأمر !!  فبقي الألم كامناً في الرّوح...

فيا أخي وأستاذي وصديقي..على أيّ بابٍ سأطرق حين أعود ؟.

أراك تطالعني،وأنا أطوي في صدري عاصفةً من ريح الوحشة،وتهاجر من بين أصابعي الكلمات..باحثةً عن زمن آخر كي نقول به مالم نقله !.

إنّ روحي تئنُّ بفعل الغياب

 ...،وليس بقلبي سوى صدى ضحكة كنت علقتها في آخر إتصال هاتفي،

وأمامي خريف ثقيل !

يقيمُ وداعاته

فوق متن الرّصيف،

ويذرفُ أسراره

  في دمي !

7 _11 -2025

المشـاهدات 23   تاريخ الإضافـة 15/11/2025   رقم المحتوى 68264
أضف تقييـم